في التّرهّب فقال : إنّ ترهّب أمّتي الجلوس في المساجد ، وانتظار الصّلاة (١).
وعلى هذا ظهر وجه النّظم بين هذه الآية ، وبين ما قبلها ، وذلك أنّه تعالى مدح النّصارى ، بأنّ منهم قسّيسين ورهبانا ، وعادتهم الاحتراز عن طيّبات الدّنيا ولذّاتها ، فلمّا مدحهم أوهم ذلك المدح ترغيب المسلمين في مثل تلك الطّريقة ، فذكر تعالى عقيبه هذه الآية ، إزالة لذلك الوهم ؛ ليظهر للمسلمين أنّهم ليسوا مأمورين بتلك الطّريقة ؛ والله أعلم.
فإن قيل : ما الحكمة في هذا النّهي؟ ومن المعلوم أنّ حبّ الدّنيا مستول على الطّباع والقلوب ، فإذا توسّع الإنسان في اللّذّات والطّيّبات ، اشتدّ ميله إليها وعظمت رغبته فيها ، وكلّما أكثر التّنعيم ودام كان ذلك الميل أقوى وأعظم ، وكلّما ازداد الميل قوّة ورغبة ، ازداد حرصه في طلب الدّنيا ، واستغراقه في تحصيلها ، وذلك يمنعه عن الاستغراق في معرفة الله ـ تعالى ـ وطاعته ، ويمنعه عن طلب سعادات الآخرة ، وأمّا إذا أعرض عن
__________________
(١) أخرجه البغوي بسنده المتصل بهذا اللفظ في شرح السنة ٢ / ٣٧٠ ، كتاب الصلاة ، باب فضل القعود في المسجد ، الحديث (٤٨٤) من حديث سعد بن مسعود الصحابي رضي الله عنه «أن عثمان بن مظعون أتى النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله! ائذن لنا في الاختصاء ...» ولم أجده عند أحد من أصحاب الأصول بهذا الإسناد وسنده فيه مقال على ما ذكره ميرك (القاري ، المرقاة ١ / ٤٦١) ويعني ميرك بذلك «رشدين بن سعد» و «ابن أنعم الإفريقي» أما «رشدين بن سعد» فذكره الذهبي في ميزان الاعتدال ٢ / ٤٩ ونقل قول أحمد : (لا يبالي عمّن روى ، وليس به بأس في الرقاق ، وقال : أرجو أنه صالح الحديث).
وأما «ابن أنعم» فذكره الذهبي أيضا في الميزان ٢ / ٥٦١ وقال : (كان البخاري يقوّي أمره ، ولم يذكره في كتاب الضعفاء).
وحديث عثمان بن مظعون رضي الله عنه صحيح ومشهور من رواية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، أخرجه الشيخان ، وغيرهما ، ولفظه عند البخاري في صحيحه ٩ / ١١٧ ، كتاب النكاح ، باب ما يكره من التبتل والخصاء ، الحديث (٥٠٧٣) و (٥٠٧٤): «ردّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم على عثمان بن مظعون التّبتّل ، ولو أذن له لاختصينا». وأخرجه مسلم في صحيحه ٢ / ١٠٢٠ ، كتاب النكاح ، باب استحباب النكاح ، الحديث (٦ / ١٠٤٢).
ومن رواية عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أخرجه أحمد في المسند ٦ / ٢٢٦ ، عن عروة قال : «دخلت امرأة عثمان بن مظعون ـ أحسب اسمها خولة بنت حكيم ـ على عائشة وهي باذّة الهيئة ، فسألتها : ما شأنك؟ فقالت : زوجي يقوم الليل ويصوم النهار ، فدخل النبي صلىاللهعليهوسلم ، فذكرت عائشة ذلك له ، فلقي رسول الله صلىاللهعليهوسلم عثمان فقال : «يا عثمان! إن الرهبانية لم تكتب علينا ، أفما لك فيّ أسوة؟ فو الله إني أخشاكم لله ، وأحفظكم لحدودة».
ومن رواية أبي أمامة رضي الله عنه أخرجه أبو داود في السنن ٣ / ١٢ ، كتاب الجهاد ، باب في النهي عن السياحة ، الحديث (٢٤٨٦) عن أبي أمامة «أن رجلا قال : يا رسول الله! ائذن لي في السياحة. قال النبي صلىاللهعليهوسلم : إنّ سياحة أمّتي الجهاد في سبيل الله».
ومن رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أخرجه أحمد في المسند ٢ / ١٧٣ ، عن عبد الله بن عمرو قال : «جاء رجل إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله! ائذن لي أن أختصي ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : خصاء أمتي الصيام والقيام».