رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) ، ثم كان من جملة الأمور المستطابة للجمهور الخمر والميسر ، فبيّن الله ـ تعالى ـ أنّهما غير داخلين في المحلّلات ، بل في المحرّمات ، وقد تقدّم بيان الخمر والميسر في سورة البقرة [البقرة ٢١٩] ، وبيان الأنصاب والأزلام في أوّل هذه السّورة [المائدة ٣].
وفي اشتقاق الخمر وجهان :
أحدهما : سمّي خمرا لمخامرته العقل ، أي : خالطته فسترته (١).
الثاني : قال ابن الأعرابي (٢) : تركت فاختمرت ، أي : تغيّر ريحها.
فصل
قال القرطبي (٣) : تحريم الخمر كان بالتّدريج ونوازل كثيرة ، لأنّهم كانوا مولعين بشربها ، وأوّل ما نزل في أمرها : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) [البقرة : ٢١٩] ، أي : في تجارتهم ، فلما نزلت هذه الآية تركها بعض النّاس ، وقالوا : لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير.
وقال بعضهم : نأخذ منفعتها ونترك إثمها ، فنزلت (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] فتركها بعضهم ، وقالوا : لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة ، وشربها بعضهم في غير أوقات الصّلاة ، حتى نزلت هذه الآية ، فصارت حراما عليهم ، وذلك في ستة ثلاث من الهجرة بعد وقعة أحد.
قوله تعالى : (رِجْسٌ:) خبر عن هذه الأشياء المتقدّمة ، فيقال : كيف أخبر عن جمع بمفرد؟ فأجاب الزمخشريّ (٤) بأنه على حذف مضاف ، أي : إنما شأن الخمر ، وكذا وكذا ، ذكر ذلك عند تعرّضه للضّمير في «فاجتنبوه» كما سيأتي ، وكذا قدّره أبو البقاء ، فقال (٥) : «لأنّ التقدير : إنما عمل هذه الأشياء». قال أبو حيان (٦) بعد حكايته كلام الزمخشريّ : ولا حاجة إلى هذا ، بل الحكم على هذه الأربعة نفسها أنّها رجس أبلغ من تقدير هذا المضاف ؛ كقوله : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة : ٢٨] ، وهو كلام حسن ، وأجاب أبو البقاء (٧) أيضا بأنه يجوز أن يكون «رجس» خبرا عن «الخمر» ، وحذف خبر المعطوفات ؛ لدلالة خبر الأول عليها ، قال شهاب الدين (٨) : وعلى هذا : فيجوز أن يكون خبرا عن الآخر ، وحذف خبر ما قبله ؛ لدلالة خبر ما بعده عليه ؛ لأنّ لنا في نحو قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) هذين التقديرين ، وقد تقدّم تحقيقهما مرارا.
__________________
(١) في ب : فغيره.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٦٦.
(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١٨٥.
(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٦٧٥.
(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٥.
(٦) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٧.
(٧) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٥.
(٨) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٠٤.