والفاء في «فأصابتكم» عاطفة هذه الجملة على نفس الشرط ، وقوله تعالى : (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) فيه وجهان :
أحدهما : أنها في محلّ رفع صفة ل «آخران» ؛ وعلى هذا : فالجملة الشرطية وما عطف عليها معترضة بين الصفة وموصوفها ؛ فإنّ قوله «تحبسونهما» صفة لقوله «آخران» ، وإلى هذا ذهب الفارسيّ ، ومكّي (١) بن أبي طالب ، والحوفيّ ، وأبو البقاء (٢) ، وابن عطيّة (٣) ، وقد أوضح الفارسيّ ذلك بعبارة خاصّة ، فقال : «تحبسونهما» صفة ل «آخران» واعترض بقوله : (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) ، وأفاد الاعتراض : أنّ العدول إلى آخرين من غير الملّة ، أو القرابة حسب اختلاف العلماء فيه ؛ إنما يكون مع ضرورة السّفر ، وحلول الموت فيه ، واستغني عن جواب «إن» ؛ لما تقدّم في قوله (آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) ، فقد ظهر من كلامه : أنه يجعل الشرط قيدا في (آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) فقط لا قيدا في أصل الشهادة ، فتقدير الجواب على رأيه ؛ كما تقدّم : «فاستشهدوا آخرين من غيركم» أو «فالشاهدان آخران من غيركم».
والثاني : أنه لا محلّ له ؛ لاستئنافه ، وإليه ذهب الزمخشريّ (٤) ؛ قال : «فإن قلت : ما موقع قوله : «تحبسونهما»؟ قلت : هو استئناف كلام ، كأنه قيل بعد اشتراط العدالة فيهما : فكيف نعمل ، إن ارتبنا فيهما؟ فقيل : تحبسونهما» ، وهذا الذي ذكره الزمخشريّ أوفق للصناعة ؛ لأنه يلزم في الأوّل الفصل بكلام طويل بين الصفة وموصوفها ، وقال : «بعد اشتراط العدالة» ؛ بناء على مختاره في قوله : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) ، أي : أو عدلان آخران من الأجانب.
قال أبو حيان (٥) : «في قوله : «إن أنتم ضربتم» إلى آخره التفات من الغيبة إلى الخطاب ، إذ لو جرى على لفظ (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) ، لكان التركيب : إن هو ضرب في الأرض ، فأصابته ، وإنما جاء الالتفات جمعا ؛ لأنّ «أحدكم» معناه : إذا حضر كلّ واحد منكم الموت» ، وفيه نظر ؛ لأن الخطاب جار على أسلوب الخطاب الأوّل من قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) إلى آخره ، وقال ابن عبّاس : «في الكلام حذف ، تقديره : فأصابتكم مصيبة الموت ، وقد أشهدتموهما على الإيصاء» ، وعن سعيد بن جبير : تقدير ه «وقد أوصيتم» ، قال بعضهم : «هذا أولى ؛ لأنّ الوصيّ يحلف ، والشّاهد لا يحلف». والخطاب في «تحبسونهما» لولاة الأمور لا لمن خوطب بإصابته الموت ؛ لأنه يتعذّر ذلك فيه ، و «من بعد» متعلّق ب «تحبسونهما» ، ومعنى الحبس : المنع ، يقال : حبست وأحبست فرسي في سبيل الله ، فهو محبس وحبيس ، ويقال لمصنع الماء :
__________________
(١) ينظر : المشكل ١ / ٢٥٠.
(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٩.
(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٢.
(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٦٨٧.
(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٦.