الثاني : أنّهم كانوا مؤمنين إلّا أنّهم طلبوا هذه الآية ليحصل لهم مزيد الطمأنينة ، فلهذا السّبب قالوا : «وتطمئنّ قلوبنا».
الثالث : أنّ مرادهم استفهام أن ذلك هل هو كاف في الحكمة أم لا؟ وذلك لأنّ أفعال الله تعالى لمّا كانت موقوفة على رعاية وجوه الحكمة ، ففي الموضع الّذي لا يحصل فيه شيء من وجوه الحكمة يكون الفعل ممتنعا ، فإنّ المنافي من جهة الحكمة كالمنافي جهة القدرة ، وهذا الجواب يتمشّى على قول المعتزلة.
وأمّا على قولنا فهو محمول على أنّه تبارك وتعالى هل قضى بذلك؟ وهل علم وقوعه؟ فإن لم يقض به ، ولم يعلم وقوعه كان ذلك محالا غير مقدور ؛ لأن خلاف المعلوم غير مقدور.
الرابع : قال السديّ (١) : إن السّين زائدة ، على أنّ استطاع بمعنى أطاع كما تقدّم.
الخامس : لعل المراد بالرّبّ جبريل ؛ لأنّه كان يربّيه ويخصّه بأنواع الإعانة ، لقوله ـ تبارك وتعالى ـ في أوّل الآية (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) ، والمعنى : أنّك تدّعي أنه يربّيك ، ويخصّك بأنواع الكرامة ، فهل يقدر على إنزال مائدة من السّماء عليك؟.
السادس : ليس المقصود من هذا السّؤال كونهم شاكّين فيه ، بل المقصود تقرير أن ذلك في غاية الظّهور ، كمن يأخذ بيد ضعيف ، ويقول : هل يقدر السّلطان على إشباع هذا ، وبكون غرضه أنّ ذلك أمر واضح لا يجوز للعاقل أن يشكّ فيه.
قوله (أَنْ يُنَزِّلَ) في قراءة الجماعة في محلّ نصب مفعولا به ، أي : الإنزال ، وقال أبو البقاء (٢) ـ رحمهالله تعالى ـ : والتقدير : على أن ينزّل ، أو في أن ينزّل ، ويجوز ألّا يحتاج إلى حرف جرّ على أن يكون «يستطيع» بمعنى «يطيق» [قلت : إنما احتاج إلى تقدير حرفي الجرّ في الأول ؛ لأنه حمل الاستطاعة على الإجابة ، وأمّا قوله أخيرا : إنّ «يستطيع» بمعنى «يطيق»] فإنما يظهر كلّ الظهور على رأي الزمخشريّ من كونهم ليسوا بمؤمنين ، وأمّا على قراءة الكسائيّ ، فقالوا : هي في محلّ نصب على المفعولية بالسؤال المقدّر ، أي : هل تستطيع أنت أن تسأل ربّك الإنزال ، فيكون المصدر المقدّر مضافا لمفعوله الأوّل ، وهو «ربّك» ، فلمّا حذف المصدر ، انتصب ، وفيه نظر ؛ من أنهم أعملوا المصدر مضمرا ، وهو لا يجوز عند البصريّين ، يؤوّلون ما ورد ظاهره ذلك ، ويجوز أن يكون (أَنْ يُنَزِّلَ) بدلا من «ربّك» بدل اشتمال ، والتقدير : هل تستطيع ، أي : هل تطيق إنزال الله تعالى مائدة بسبب دعائك؟ وهو وجه حسن.
و «مائدة» مفعول «ينزّل» ، والمائدة : الخوان عليه طعام ، فإن لم يكن عليه طعام
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ١٠٨.
(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٢.