شكّ في نسبته إلى المخاطب ، وإن شكّ في أصل وقوع الفعل ، أولي الفعل للهمزة ، فيقال : «أضربت زيدا» ، لم تقطع بوقوع الضرب ، بل شككت فيه ، والحاصل : أنّ الهمزة يليها المشكوك فيه ، فالاستفهام في الآية الكريمة يراد به التقريع والتوبيخ لغير عيسى ـ عليهالسلام ـ وهم المتّخذون له ولأمّه إلهين ، دخل على المبتدأ لهذا المعنى الذي ذكرناه ؛ لأن الاتخاذ قد وقع ولا بدّ ، واللام في «للنّاس» للتبليغ فقط ، و «اتّخذوني» يجوز أن تكون بمعنى «صيّر» ، فتتعدّى لاثنين ، ثانيهما «إلهين» ، وأن تكون المتعدية لواحد ف «إلهين» حال ، و (مِنْ دُونِ اللهِ) فيه وجهان :
أظهرهما : أنه متعلق بالاتخاذ ، وأجاز أبو البقاء (١) ـ رحمهالله تعالى ـ وبه بدأ ـ أن يكون متعلّقا بمحذوف ؛ على أنه صفة ل «إلهين».
فإن قيل : كيف يليق الاستفهام بعلّام الغيوب ؛ وأيضا النّصارى لا يقولون بإلهيّة عيسى[ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومريم].
فالجواب عن الأول : أنّه على سبيل الإنكار ، وقصد هذا السّؤال تعريفه أنّ قومه غيروا بعده ، وادّعوا عليه ما لم يقله.
والجواب عن الثّاني : أنّ النّصارى يعتقدون أنّ المعجزات الّتي ظهرت على يد عيسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ومريم ـ عليهاالسلام ـ لم يخلقها الله تعالى ، بل عيسى ابن مريم ـ عليهما الصّلاة والسّلام ـ ، فالله ليس خالقهما ، فصحّ أنهم أثبتوا في حقّ بعض الأشياء كون عيسى ـ عليهالسلام ـ ومريم إلهين من دون الله ، [مع أنّ الله ليس إلها له](٢) ، فصحّ بهذا التّأويل هذه الحكاية.
وقال القرطبي (٣) ـ رحمهالله ـ : فإن قيل : النّصارى لم يتّخذوا مريم إلها ، فكيف قال ذلك فيهم؟.
فقيل : لمّا كان من قولهم أنّها لم تلد بشرا ، وإنّما ولدت إلها ، لزمهم أن يقولوا : إنّها لأجل البعضيّة بمثابة من ولدته ، فصاروا حين لزمهم ذلك بمثابة القائلين له.
فإن قيل : إنّه ـ تبارك وتعالى ـ إن كان عالما بعيسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لم يقل ذلك ، فلم خاطبه به؟ فإن قلتم : الغرض منه توبيخ النّصارى وتقريعهم ، فنقول : إنّ أحدا من النّصارى لم يذهب إلى القول بإلهيّة عيسى ومريم مع القول بنفي إلهيّة الله تعالى ، فكيف يجوز أن ينسب هذا القول إليهم ، مع أنّ أحدا منهم لم يقل به؟.
فالجواب : أنّ الله تعالى أراد أنّ عيسى يقرّ على نفسه بالعبوديّة فيسمع قومه ، ويظهر كذبهم عليه أنّه أمرهم بذلك.
__________________
(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٣.
(٢) سقط في ب.
(٣) ينظر : القرطبي ٦ / ٢٤١.