ومكرهم (١) وظلمهم ، وضررهم على المسلمين ؛ فلهذا ذكر الله فضائحهم وكشف أسرارهم.
وثانيهما : أنّه ـ تعالى ـ قال في الآية الأولى : أن المنافقين إذا تابوا وأخلصوا ، صاروا من المؤمنين ، فيحتمل أن يتوب بعضهم ويخلص توبته ، ثم لا يسلم من التّغير (٢) والذّمّ من بعض المسلمين ؛ بسبب ما صدر عنه في الماضي من النّفاق ، فبين ـ تعالى ـ في هذه الآيةأنه لا يحب الجهر بالسوء من القول ، إلا من ظلم نفسه وأقام على نفاقه ، فإنه لا يكره.
قوله : «بالسّوء» متعلق ب «الجهر» ، وهو مصدر معرف ب «أل» استدلّ به الفارسيّ على جواز إعمال المصدر المعرّف ب «أل». قيل : ولا دليل فيه ؛ لأنّ الظرف والجارّ يعمل فيهما روائح الأفعال ، وفاعل هذا المصدر محذوف ، أي : الجهر أحد ، وقد تقدم أن الفاعل يطّرد حذفه في صور منها المصدر ، ويجوز أن يكون الجهر مأخوذا من فعل مبنيّ للمفعول على خلاف في ذلك ، فيكون الجارّ بعده في محلّ رفع لقيامه مقام الفاعل ؛ لأنك لو قلت : لا يحبّ الله أن يجهر بالسوء ، كان «بالسّوء» قائما مقام الفاعل ، ولا تعلّق له حينئذ به ، و (مِنَ الْقَوْلِ) حال من «السّوء».
قوله : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) في هذا الاستثناء قولان :
أحدهما : أنه متصل.
والثاني : أنه منقطع ، وإذا قيل بأنه متصل ، فقيل : هو مستثنى من «أحد» المقدّر الذي هو فاعل للمصدر ، فيجوز أن تكون «من» في محلّ نصب على أصل الاستثناء ، أو رفع على البدل من «أحد» ، وهو المختار ، ولو صرّح به ، لقيل : لا يحبّ الله أن يجهر أحد بالسّوء إلا المظلوم ، أو المظلوم رفعا ونصبا ، ذكر ذلك مكي (٣) وأبو البقاء (٤) وغيرهما ، قال أبو حيان (٥) : «وهذا مذهب الفراء ، أجاز في «ما قام إلّا زيد» أن يكون «زيد» بدلا من «أحد» ، وأمّا على مذهب الجمهور ، فإنه يكون من المستثنى الذي فرّغ له العامل ، فيكون مرفوعا على الفاعليّة بالمصدر ، وحسّن ذلك كون الجهر في حيّز النفي ، كأنه قيل : لا يجهر بالسّوء من القول إلا المظلوم» انتهى ، والفرق ظاهر بين مذهب الفراء وبين هذه الآية ؛ فإن النحويّين إنما لم يروا بمذهب الفراء ، قالوا : لأن المحذوف صار نسيا منسيّا ، وأما فاعل المصدر هنا ، فإنه كالمنطوق به ليس منسيا ، فلا يلزم من تجويزهم الاستثناء من هذا الفاعل المقدّر أن يكونوا تابعين لمذهب الفرّاء ؛ لما ظهر من الفرق ،
__________________
ـ وقال ابن حبان : والخبر في أصله باطل وهذه الطرق كلها بواطيل لا أصل لها. والحديث قال الألباني : موضوع وينظر السلسلة الضعيفة برقم (٥٨٣).
(١) في ب : كانوا قد كثر مكرهم وكيدهم.
(٢) في ب : التغيير.
(٣) ينظر : المشكل ١ / ٢١٠.
(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠٠.
(٥) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٩٨.