( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ ) .
هذه الآيات تبث في نفس الرسول الطمأنينة ، وتثبت قلبه ، بإلفاته إلى ما أسبغه الله عليه في أُولاه ، من نِعَم : كان يتيماً ، فآواه ، ووقاه مسكنة اليُتْم ، وكان ضالّاً ، فهداه تعالى إلى دين الحق (١) وكان عائلاً فأغناه الله بفضله وكرمه . أفما يكفي هذا ليطمئن كلُّ أحد إلى أنّ الله غير تاركه ولا قاليه ؟ وهل تَرَكَه حين كان صبياً يتيماً متعرضاً لما يتعرض له اليتامى من قهر وضياع ؟ وهل قلاه حين كان ذا عيلة ؟ كلا ، لا .
واليتيم مظنة الضياع والقهر ، قال سبحانه : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ ) (٢) . وقد وجه الله محمداً يتيماً عائلاً ، فأعفاه سبحانه من تلك الآثار البغيضة ، وحفظ جوهره من الآفات التي كان معرَّضاً لها بحكم يتمه وعيلته ، وبذلك تمّ فيه الإستعداد النفسي لتلقّي الرسالة الكبرى ، التي بعث بها ليقي الناس من المذلَّة والضلال .
( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) .
أتى بكلمة : « فلا تقهر » ، مع أنّ في وسعه أن يستخدم كلمة أُخرى ، نحو : « فلا تظلم » ، « فلا تمنع حقه » وغيرهما ، وذلك لأنّ في عبارة : « فلا تقهر » ، معنى أعمق وأدق ممّا يفيده ذانك اللفظان ومشابههما ، إذ يجوز أن يقع
__________________
(١) المراد من الضلال ، هو الضلال الطبيعي العام ، فكل إنسان ضال بالطبع ، ويخرج منه بهداية من الله سبحانه ، فليست الآية دليلاً على أنّه صلى الله عليه وآله كان ضالّاً غير عارف بالله في فترات من عمره ، ثم هداه الله سبحانه . وليس الضلال مرادفاً للكفر . بل هو بمعنى عدم الإهتداء إلى الصواب . وقد رموا يعقوب بالضلال كما في قوله سبحانه : ( تَاللَّـهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ) سورة يوسف : الآية ٩٥ . وليس الضلال هناك كفراً ، وإنّما هو الشغف بيوسف . وقالت النسوة في إمرأة العزيز ويوسف ( قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) سورة يوسف : الآية ٣٠
(٢) سورة النساء : الآية ٩ .