القهر مع إنصاف اليتيم وإعطائه ماله ، وعدم التسلّط عليه بالأذى ، لأنّ حساسية اليتيم إلى حدّ أنّه يتأثّر بالكلمة العابرة ، واللفتة الجارحة من غير قصد . والنبرة المؤلمة بلا تنبه ، وإن لم يصحبها تسلّط بالأذى ، أو غلبة على مالِه وحقِّه .
ويحتمل أن يكون المراد من النعمة هو الرسالة التي أكرمه الله تعالى بها ، وتفضل بها عليه ، وعند ذلك يكون المراد من التحدّث بها هو إبلاغ رسالة ربّه .
ثم في الآيات الثلاث الأخيرة نكتة بديعة ، فإنّا نرى أنّه سبحانه قَدّم النهي عن قهر اليتيم ونهر السائل ، على التحدّث بنعمته تعالى ، فأخَّر حَقَّ نفسه وهو التحدث بالنعمة ، وقدّم حقّ اليتيم والسائل . وما هذا إلّا لأنّه غنيّ وهما محتاجان ، وتقديم حَقِّ المحتاج أَولى .
وهناك نكتة أُخرى ، وهي أنّه تعالى لم يرض في حقهما إلّا بالفعل ، ورضى في نفسه بالقول (١) .
* * *
فهاتان السورتان المتقدمتان أوقفتانا على نموذج من بلاغة القرآن ـ بمعنى المطابقة لمقتضى الحال ـ وزيادة في بيان هذا الجانب البلاغي ، نأتي بنماذج أخرى من آياته ، حصل فيها تقديم وتأخير وعكس في العبارات ، ممّا قد يتخيل معه أنّه تنويع وتفنن في الكلام ، ولكن بالتأمّل فيها يتّضح أنّه ليس كذلك ، وإنّما اختلاف التعبير نشأ من اختلاف المقتضيات .
١ ـ يقول سبحانه في سورة الأنعام : ( وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) (٢) .
ويقول سبحانه في سورة الإسراء : ( وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ
__________________
(١) ما ذكرناه في هذا العرض ، اقتبسناه من كتاب « التفسير البياني للقرآن الكريم » ، ج ١ ، ص ٢٣ ـ ٥٥ . بتلخيص وتصرّف .
(٢) سورة الأنعام : الآية ١٥١ .