المعنويات التي هي بعبدة كلّ البعد عن عالم المادة ـ مستورة عنّا ومحجوبة عن ادراكاتنا ، إلّا ما أصابتها عقولنا في عالم الإمكان بقدرها ، وأنّ ذلك لا يظهر الحقيقة ولا يبيّن الواقع ، بل هو كشف عن بعض الآثار الدالّة على الوجود ، وعن بعض الفلاسفة أنّ التعاريف للحقائق كلّها ليست إلّا لبيان بعض الآثار ، لا من باب الكشف للحقيقة ، لأنّه على وجه التحديد غير ممكن ، للاختلاف في الأنواع ، وللسير الاستكمالي فيها وتفاوت الاستعدادات ، إلى غير ذلك من الأمور التي ذكروها ، ولذلك قالوا : «العلم بحقائق الأشياء صعب المنال جدا ، ويظهر ذلك أكثر وضوحا في مثل الروح ، والعلم ، والوحي ، والموت ، والحياة ، والوجود ، وغيرها.
ومن ذلك : النور ، فقد عرّفوا حقيقته بتعاريف متعدّدة ، لعلّ أسلمها : «أنّه كيفيّة خاصّة ظاهرة بنفسها» ، وأنّه «خلاف الظلمة» ، والمناقشة فيه واضحة ، لأنّه لم يعرف حقيقته وواقعه. وعن ثالث : «هو الظاهر في نفسه المظهر لغيره» ، وهذا يرجع إلى الأوّل. وعن رابع : أنّ حقيقته الوجود ، والتغائر بينهما لفظي. وفيه : أنّ الوجود أعمّ بالكتاب والسنّة والعقل كما هو واضح. وعن خامس : أنّه الصراط المستقيم الموصل للحقيقة. وفيه : على فرض التنازل أنّه تعريف بأحد المصاديق. وعن سادس : أنّه القوّة ، أو الحلاوة في الباطن ، أو الوصول إلى الحقّ ، والمناقشة فيه واضحة جدا ، وأنّ ما ذكر من المصطلحات الصوفيّة التي هي بعيدة عن الماء المعين ومنهج الشرع المبين والصراط المستقيم.
فالصحيح ما تقدّم من أنّ النيل إلى الواقع والحقيقة غير ميسور ، وأنّ هذه التعاريف كلّها تقريبيّة ، قد يقنع الذهن بها وإن لم تقتنع النفس ، وعدم النيل إلى الحقيقة لا يضرّ بالسير والسلوك بعد الدرك أنّه من جند القلب ، وبه تكشف المبهمات وترفع الظلمات ويتميّز الحقّ من الباطل ، فيحقّ الحقّ ويبطل الباطل ، فينتصر القلب بإقباله على الحقّ بالنور المشرق عليه ، وتنهزم الظلمات وتوابعها ، إذ لا بقاء للظلمة مع إشراق النور ووضوحه.