منهم المواثيق ، فصاحوا به وبأخيه هارون : (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) [سورة الأعراف ، الآية : ١٢٩] ، وقد نقلت لنا التوراة صورا متعدّدة من ذلك التمرّد ، وورد في إحداها أنّهم قالوا : «ليتنا متنا في مصر إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزا للشبع ، فإنّكما أخرجتمانا إلى هذا الجمهور بالجوع» ١٦٠ سفر الخروج : ٢ ـ ٣ ، والسرّ في ذلك واضح ، فإنّ الحرية لم تكن عندهم شيئا يذكر ، ولم تبعثهم الكرامة الإنسانيّة ولم ينهض بهم طلب الفضائل ، فقد تربّوا على الذلّة ، والصغار ، ونقض العهد والميثاق ، والخروج عن الطاعة ، فصار العناد واللجاج من سماتهم المعروفة. ومن هنا كان الأمر بدخول الأرض المقدّسة عليهم عظيما ، لأنّه يستلزم الحرب بينهم وبين السكان الذين يقطنون فيها ، وهم يخافون الحرب ، وقد بذلت محاولات عديدة لإرضائهم بالدخول ، ووعدهم عزوجل بالنصر ، ولكنّهم أصروا على موقفهم ، كما حكى عنهم القرآن الكريم فقالوا : (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ، ومقالتهم هذه تكشف عن كبير عصيانهم وعظيم جبنهم ، فأحبّوا أن يكون الدخول إلى الأرض المقدّسة عن طريق المعجزة الإلهيّة ، لأنّهم كانوا يدركون أنّهم شعب احتفت بهم الكرامة الإلهيّة وكثرت فيهم المعاجز وخوارق العادات ، حتّى عرفوا بها ولم يتنبهوا أنّ تلك المعاجز إنّما كانت لأجل ايقاظهم عن سباتهم وبعث روح الاستكمال فيهم ، وتربيتهم بالتربية الإلهيّة الصالحة ، تدفع عن نفوسهم تلك الذلّة والصغار التي تربّوا عليها.
ومن هنا نعرف أنّ التيه الذي كتبه الله تعالى عليهم إنّما كان الغرض منه هو إعدادهم إعدادا ماديا ومعنويّا ، لتحمّل المسؤولية الإلهيّة ، وتربيتهم تربية صالحة ، التي لا بدّ من توفّرها في كلّ شعب يريد السعادة في الحياة ، فكانوا في تيه فكريّ لا يمكنهم معرفة تلك الحقائق وما تتطلبه الحياة من الوسائل التي لا يمكن أن تنال إلّا بإصلاح نفسيّ وبدني وفق منهج تربويّ دقيق ، وهذا هو الذي أراده موسى عليهالسلام حين طلب من ربّه أن يفرق بينه وبين القوم الفاسقين ، فإنّه لم يطلب