ثمّ أخبر سبحانه عن إفناء الدنيا وما عليها الّذي هو مقدّمة وقوع يوم الحسرة ، فقال : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) أي : نميت سكّانها ، فلا يبقى فيها مالك ولا ملك. أو نتوفّى الأرض ومن عليها بالإفناء والإهلاك ، توفّي الوارث لإرثه. (وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) يردّون للجزاء بعد الموت ، أي : إلى حيث لا يملك الأمر والنهي غيرنا.
ثمّ أخبر عن قصّة إبراهيم الّتي هي متضمّنة للتوحيد ، الّذي هو منشأ الفلاح والفوز يوم الحسرة ، فقال : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) ملازما للصدق ، أو كثير التصديق ، لكثرة ما صدّق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسله. وهو من أبنية المبالغة. ونظيره : النطّيق. (نَبِيًّا) رفيع الشأن برسالة الله تعالى.
(إِذْ قالَ) بدل من «إبراهيم» ، وما بينهما اعتراض. أو متعلّق بـ «كان» أو بـ «صدّيقا نبيّا». (لِأَبِيهِ) أي : لعمّه الّذي هو بمنزلة أبيه في تربيته ، أو لجدّه لأمّه ، فإنّ أباه الّذي ولده كان اسمه تارخ ، لإجماع الطائفة الحقّة على أنّ آباء الأنبياء كلّهم إلى آدم كانوا مسلمين موحّدين. وقد بيّنّا ذلك في سورة الأنعام (١).
(يا أَبَتِ) التاء معوّضة من ياء الإضافة ، ولذلك لا يقال : يا أبتي ، لئلّا يجمع بين العوض والمعوّض منه ، ويقال : يا أبتا. وإنّما تذكر للاستعطاف ، ولذلك كرّرها.
(لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) فيعرف حالك ، ويسمع ذكرك ، ويرى خضوعك (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) في جلب نفع أو دفع ضرّ.
دعاه إلى الهدى ، وبيّن ضلاله ، واحتجّ عليه أبلغ احتجاج وأرشقه ، برفق وحسن أدب وخلق حسن ، منتصحا في ذلك بنصيحة ربّه عزّ وعلا ، كما روى أبو هريرة أنّه قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أوحى الله إلى إبراهيم عليهالسلام : إنّك خليلي ، حسّن خلقك ولو مع الكفّار ، تدخل مداخل الأبرار ، فإنّ كلمتي سبقت لمن حسن خلقه : أظلّه تحت عرشي ، وأسكنه حظيرة القدس ، وأدنيه من جواري».
__________________
(١) راجع ج ٢ ص ٤١٥ ذيل الآية ٧٤ من سورة الأنعام.