ولهذا لم يصرّح بضلالة أبيه ، بل طلب العلّة الّتي تدعوه إلى عبادة ما يستخفّ به العقل الصريح ، ويأبى الركون إليه ، فضلا عن عبادته الّتي هي غاية التعظيم ، ولا تحقّ إلّا لمن له الاستغناء التامّ والإنعام العامّ ، وهو الخالق الرازق ، المحيي المميت ، المعاقب المثيب ، الّذي منه أصول النعم وفروعها.
ونبّه على أنّ العاقل ينبغي أن يفعل ما يفعل لغرض صحيح. والشيء لو كان حيّا مميّزا سميعا بصيرا مقتدرا على النفع والضرّ ولكن كان ممكنا ، لاستنكف العقل القويم عن عبادته ، وإن كان أشرف الخلق كالملائكة والنبيّين ، لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة الواجبة ، فكيف إذا كان جمادا لا يسمع ولا يبصر؟! ثمّ ثنّى بدعوته إلى الحقّ مترّفقا به متلطّفا ، ودعاه إلى أن يتّبعه ليهديه إلى الحقّ القويم والصراط المستقيم ، لمّا لم يكن محظوظا من العلم الإلهي ، مستقلّا بالنظر السويّ ، فقال : (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ) بالله سبحانه (ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي) على ذلك واقتد بي فيه (أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) أي : أوضح لك طريقا مستقيما. ولم يسم أباه بالجهل المفرط ، ولا نفسه بالعلم الفائق ، بل جعل نفسه كرفيق له في مسير يكون أعرف بالطريق ، كأنّه قال : لا تستنكف وهب أنّي وإيّاك في مسير ، وعندي مزيّة معرفة بالهداية دونك.
ثمّ ثلّث تثبيطه عمّا كان عليه ، بأنّه مع خلوّه عن النفع مستلزم للضرّ ، فإنّه في الحقيقة عبادة الشيطان ، من حيث إنّه الآمر به ، فقال : (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) لا تطعه فيما يدعوك إليه ، فتكون بمنزلة من عبده ، فإنّ الكافر لا يعبد الشيطان ، ولكن يطيعه فيما أمره من الكفر والشرك.
ثمّ بيّن وجه الضرّ فيه ، بأنّ الشيطان مستعص على ربّك المولي للنعم كلّها ، بقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) شديد العصيان. ومعلوم أنّ المطاوع للعاصي عاص ، وكلّ عاص حقيق بأن تستردّ منه النعم ، وينتقم منه.