يقوله محمد حقّا فنحن أولى بالجنّة ونعيمها! فحينئذ أوفّره أجره ، فنزلت : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) نبقيها عليهم من ثمرة تقواهم ، كما يبقى على الوارث مال مورّثه. والوراثة أقوى لفظ يستعمل في التملّك والاستحقاق ، من حيث إنّها لا تعقّب بفسخ ولا استرجاع ، ولا تبطل بردّ ولا إسقاط.
وقيل : أورثوا من الجنّة المساكن الّتي كانت لأهل النار لو أطاعوا ، زيادة في كرامتهم. وعن يعقوب : نورّث بالتشديد. واعلم أنّه قد مرّ (١) في سورة الكهف أنّه سئل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عن قصّة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ، ولم يدر ما يجيب ، ورجا أن يوحى إليه فيه ، فأبطأ عليه خمسة عشر يوما ، وقيل : أربعين ، حتّى قال المشركون : ودّعه ربّه وقلاه ، فشقّ ذلك عليه مشقّة شديدة. ثمّ نزل جبرئيل ببيان ذلك. فقال رسول الله : أبطأت وإنّي اشتقت إليك. قال : إنّي كنت أشوق ، ولكنّي عبد مأمور ، إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست. فنزلت : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) فهو حكاية قول جبرئيل حين استبطأه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
والتنزّل : النزول على مهل ، لأنّه مطاوع : نزل. وقد يطلق بمعنى النزول مطلقا ، كما يطلق «نزل» بمعنى : أنزل.
والمعنى : ما نتنزّل وقتا غبّ وقت إلّا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته.
(لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا) ما قدّامنا (وَما خَلْفَنا) من الجهات والأماكن (وَما بَيْنَ ذلِكَ) وهو ما نحن فيه من الأماكن والأحايين (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) لأعمال العاملين وغيرها ، فإنّه لا يجوز عليه الغفلة والنسيان.
والمعنى : ما كان عدم نزولنا إليك إلّا لعدم الأمر به ، فأنّى لنا أن نتقلّب في ملكوته ، ونتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ، ومكان إلى مكان ، إلّا بأمر المليك ومشيئته ، وهو الحافظ العالم بكلّ حركة وسكون. وما يحدث ويتجدّد من الأحوال لا يجوز عليه الغفلة
__________________
(١) راجع ص ١٠٠ ذيل الآية ٢٤ من سورة الكهف.