(إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أبصرتها إبصارا بيّنا لا شبهة فيه. ومنه إنسان العين ، لأنّه يتبيّن به الشيء. والإنس ، لظهورهم ، كما قيل : الجنّ ، لاستتار هم. وقيل : هو إبصار ما يؤنس به (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) بنار مقتبسة في رأس عود أو فتيلة أو غيرهما. (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) مصدر بمعنى الفاعل ، أي : هاديا يدلّني على الطريق ، أو ذوي هدى بحذف المضاف.
وعن مجاهد : هاديا يهديني أبواب الدين ، فإنّ أفكار الأنبياء مغمورة بالهمّة الدينيّة في جميع أحوالهم ، لا يشغلهم عنها شاغل.
ولمّا كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقّبين متوقّعين ، بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع ، وقال : لعليّ ، ولم يقطع فيقول : إنّي آتيكم ، لئلّا يعد ما ليس بمستيقن الوفاء به ، بخلاف الإيناس ، فإنّه كان محقّقا ، ولذلك حقّقه لهم بـ «إنّ» ليوطّن أنفسهم عليه.
ومعنى الاستعلاء في «على النار» : أنّ أهلها مشرفون عليها ، فإنّ المصطلين بها والمستمتعين بها إذا اكتنفوها قياما وقعودا كانوا مشرفين عليها. أو مستعلون المكان القريب منها ، كما قال سيبويه في مررت بزيد : إنّه لصوق بمكان يقرب منه.
(فَلَمَّا أَتاها) أتى النار وجد نارا بيضاء تتّقد في شجرة خضراء (نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) فتحه ابن كثير وأبو عمرو ، أي : بأنّي. وكسره الباقون بإضمار القول ، أو إجراء النداء مجراه. وتكرير الضمير لتوكيد الدلالة ، وتحقيق المعرفة ، وإماطة الشبهة.
روي : أنّه لمّا نودي : يا موسى ، قال : من المتكلّم؟ قال : إنّي أنا الله. فوسوس إليه إبليس : لعلّك تسمع كلام شيطان. فقال موسى : أنا عرفت أنّه كلام الله ، بأنّي أسمعه من جميع الجهات وبجميع أعضائي.
وهو إشارة إلى أنّه تلقّى من ربّه كلامه تلقّيا روحانيّا ، ثمّ تمثّل ذلك الكلام لبدنه ، وانتقل إلى الحسّ المشترك ، فانتقش به من غير اختصاص بعضو وجهة.
وروي : أنّه حين انتهى رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها ، كأنّها نار بيضاء