يجعلها كالرمل ، ثمّ يرسل عليها الرياح فتفرّقها كما تذرى الحبوب.
(فَيَذَرُها) فيذر مقارّها ، أو الأرض. وإضمارها وإن لم يجر ذكرها لدلالة الجبال عليها ، كقوله تعالى : (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) (١) (قاعِداً) خالية ملساء (صَفْصَفاً) أي : أرضا مستوية ليس للجبل فيها أثر ، كأنّ أجزاءها على صفّ واحد. قال في الصحاح : «الصفصف : المستوي من الأرض» (٢). (لا تَرى فِيها عِوَجاً) اعوجاجا (وَلا أَمْتاً) ولا نتوّا يسيرا.
واعلم أنّ هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء والملاسة ، ونفي الإعوجاج عنها على أبلغ ما يكون. وذلك أنّك لو عمدت إلى قطعة أرض فسوّيتها ، وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلّاحة (٣) ، واتّفقتم على أنّه لم يبق فيها اعوجاج قطّ ، ثمّ استطلعت رأي المهندس فيها ، وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسيّة ، لعثر في مواضع كثيرة منها على عوج لا يدرك بحاسّة النظر أو البصر ، ولكن بالقياس الهندسي. فنفى الله عزوجل ذلك العوج الّذي دقّ ولطف عن الإدراك ، اللهمّ إلّا بالقياس الّذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة.
ولمّا كان ذلك الاعوجاج لم يدرك إلّا بالقياس دون الإحساس ألحقه بالمعاني ، فقال فيه : عوجا بالكسر ، لأنّه يخصّ بالمعاني ، لا العوج بالفتح ، لأنّه يخصّ بالأعيان.
فالأحوال الثلاثة مترتّبة ، لأنّ الأوّلين باعتبار الاحساس ، والثالث باعتبار المقياس ، كما ذكرنا.
وقال الحسن والمجاهد : العوج ما انخفض من الأرض ، والأمت ما ارتفع من
__________________
(١) فاطر : ٤٥.
(٢) الصحاح ٤ : ١٣٨٧.
(٣) في هامش النسخة الخطّية : «الفلّاحة كالنسّابة ، صفة الجماعة. وأصل الفلح : الشقّ. منه». والفلّاحة جمع الفلّاح.