ولمّا استبعدوا أن يكون ما هم عليهم ضلالا ، بقوا متعجّبين من تضليله إيّاهم ، وحسبوا أنّ ما قاله إنّما قاله على وجه المزاح والمداعبة ، لا على طريق الجدّ (قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) أجادّ أنت فيما تقول محقّ عند نفسك ، أم لاعب مازح؟
(قالَ) إضرابا عن كونه لاعبا بإقامة البرهان على ما ادّعاه : (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ) الضمير للسّماوات والأرض ، أو للتماثيل. وهو أدخل في تضليلهم ، وإلزام الحجّة عليهم.
(وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ) المذكور من التوحيد (مِنَ الشَّاهِدِينَ) المتحقّقين له ، والمبرهنين عليه ، فإنّ الشاهد من تحقّق الشيء عنده وحقّقه. فشهادته على ذلك احتجاجه عليه ، وتصحيحه بالحجّة ، كما تصحّح الدعوى بالشهادة. كأنّه قال : وأنا أبيّن ذلك وأبرهن عليه ، كما تبيّن الدعاوي بالبيّنات ، لأنّي لست مثلكم فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجّة ، كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم ، ولم تزيدوا على أنّكم وجدتم عليه آباءكم.
(وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) لأجتهدنّ في كسرها (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا) عنها (مُدْبِرِينَ) إلى عيدكم. وإيثار التاء على الباء ـ مع أنّ الباء هي الأصل ، فإنّ التاء بدل من الواو المبدلة منها ـ لما في التاء من زيادة معنى ، وهو التعجّب. وذكر الكيد لتوقّفه على نوع من الحيل ، فكأنّه تعجّب من تسهّل الكيد على يده وتأتّيه ، لأنّ ذلك كان أمرا مقنوطا منه ، لصعوبته وتعذّره. ولعمري أنّ مثله صعب متعذّر في كلّ زمان ، خصوصا في زمن نمرود ، مع عتوّه واستكباره وقوّة سلطانه ، وحرصه على نصرة دينه ، ولكن : إذا الله سنّى (١) عقد شيء تيسّرا (٢).
__________________
(١) في هامش النسخة الخطّية : «سنّى الأمر : إذا سهّله. وسنّى العقدة إذا حلّها. منه».
(٢) تمام البيت :