الراضة (١) من علماء المعاني.
وتنقيح الكلام فيه : أنّ قصد إبراهيم عليهالسلام لم يكن إلى أن ينسب العقل الصادر عنه إلى الصنم ، وإنّما قصد تقريره لنفسه ، وإثباته لها على أسلوب تعريضيّ يبلغ فيه غرضه من إلزام الحجّة وتبكيتهم. وهذا كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتابا بخطّ رشيق ـ وأنت شهير بحسن الخطّ ـ : أأنت كتبت هذا ، وصاحبك أمّي لا يحسن الخطّ ، ولا يقدر إلّا على خرمشة (٢) فاسدة؟ فقلت له : بل كتبته أنت. كأنّ قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به ، لا نفيه عنك وإثباته للأمّي أو المخرمش ، لأنّ إثباته ـ والأمر دائر بينكما للعاجز منكما ـ استهزاء به وإثبات للقادر.
ولقائل أن يقول : غاضته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفّة مرتّبة ، وكان غيظ كبيرها أكبر وأشدّ ، لما رأى من زيادة تعظيمهم له ، فأسند الفعل إليه ، لأنّه هو الّذي تسبّب لاستهانته بها وحطمه لها ، والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه.
ويجوز أن يكون حكاية لما يقود إلى تجويزه مذهبهم إلزاما لهم. كأنّه قال لهم : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم؟ فإنّ من حقّ من يعبد ويدعى إلها أن يقدر على هذا وأشدّ منه.
ويحكى أنّه قال : فعله كبيرهم هذا حين غضب أن تعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها.
وقيل : إنّه في المعنى متعلّق بقوله : (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) وما بينهما اعتراض. فعلّق الكلام بشرط لا يوجد ، فلا يكون كذبا ، كقول القائل : فلان صادق فيما يقول إن لم يكن فوقنا سماء.
وقيل : الضمير لـ «فتى» أو إبراهيم ، ولذلك وقف على «فعله» ، ويبتدأ فيقرأ : (كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ).
__________________
(١) أي : المهرة الخبراء في تذليل صعاب المسائل وتطويعها. جمع رائض.
(٢) في هامش النسخة الخطّية : «قال الأزهري : الخرمشة إفساد الكتاب والعمل ونحوه. منه». انظر تهذيب اللغة للأزهري ٧ : ٦٤٦.