ثمّ نبّه سبحانه على النظر فيما يدلّ على وحدانيّته وكمال قدرته بطريق آخر ، ليستوفي الإلزام عليهم ، فقال : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) ألم تنظر إلى صنعه وقدرته (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) كيف جعله منبسطا ممتدّا لينتفع به الناس؟ أو ألم تنظر إلى الظلّ كيف مدّه ربّك؟ فغيّر النظم إشعارا بأنّه المعقول من هذا الكلام ، لوضوح برهانه ، وهو دلالة حدوثه وتصرّفه على الوجه النافع بأسباب ممكنة ، على أنّ ذلك فعل الصانع الحكيم كالمشاهد المرئي ، فكيف بالمحسوس منه. أو ألم ينته علمك إلى أنّ ربّك كيف مدّ الظلّ؟ وهو ظلّ الأجرام ، من نحو الجبال والحيطان والأشجار.
وعن ابن عبّاس والضحّاك وسعيد بن جبير : المراد الظلّ من وقت طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وهو أطيب الأحوال ، فإنّ الظلمة الخالصة تنفّر الطبع وتسدّ النظر ، وشعاع الشمس يسخن الجوّ ويبهر البصر. ولذلك وصف به الجنّة فقال : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) (١).
(وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) ثابتا ، من السكنى ، أي : لاصقا بأصل كلّ مظلّ ، من جبل وبناء وشجرة ، غير منبسط ، فلم ينتفع به أحد. سمّي انبساط الظلّ وامتداده تحرّكا ، وعدم ذلك سكونا ، تجوّزا. أو جعله غير متقلّص ، من السكون ، بأن يجعل الشمس مقيمة على وضع واحد.
(ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) فإنّه لا يظهر للحسّ حتّى تطلع ، فيقع ضوءها على بعض الأجرام. أو لا يوجد ولا يتفاوت إلّا بسبب حركتها. يعني : أنّ الناس يستدلّون بالشمس وأحوالها في مسيرها على أحوال الظلّ ، من كونه ثابتا في مكان وزائلا ، ومتّسعا ومتقلّصا. ولو لا الشمس لما عرف الظلّ ، ولو لا النور لما عرفت الظلمة. فيبنون حاجتهم إلى الظلّ على حسب ذلك.
ولمّا عبّر عن إحداثه بالمدّ بمعنى التسيير ، عبّر عن إزالته بالقبض إلى نفسه الّذي
__________________
(١) الواقعة : ٣٠.