فتحوا بلادهم ، ودخلوها ظافرين منتصرين ، وسيطروا عليهم بحكمهم ، وأخضعوهم لسيادة الإسلام وسلطانه؟!
تلك المعاملة التى كانت تفيض عدلا وإنصافا ، وتسامحا ووفاء ، قد أكرم المسلمون مجاوريهم من أهل الذمة ، والعهد ، واعتبروهم إخوانا في السراء والضراء ، ونادوا بالمساواة العامة بين أبناء البشر كافة ، ودعوا الناس جميعا إلى نبذ الفوارق والخلاف ، وتواصوا بالرفق بالمخالفين ، والإحسان إليهم ؛ وقالوا لهم : «نحن وإن فرقت بيننا العقيدة ، ولم تجمعنا رابطة الدين فقد ربطتنا آصرة النسب ، وجمعتنا جامعة الإنسانية».
لم ينس المسلمون تعاليهم دينهم ؛ وآداب شريعتهم ، حينما كانوا يكتسحون البلاد التى فتحوها ؛ فلم يبطش قوادهم بمن ظفروا بهم ، ولم يستبد أمراؤهم بمن خضعوا تحت سلطانهم ، ولم يصدر الخليفة الأعظم أوامره بالتنكيل والتعذيب والتخريب ؛ وإنما كانوا يمثلون ملائكة الرحمة ، ورسل السّلام ؛ يمشون فى أمورهم بالحزم واللين ، والرفق والصفاء ، ومن خرج عن ذلك عوقب عقابا شديدا.
فها هو عمر بن الخطاب ، الخليفة الثاني للمسلمين ، يكتب إلى أميره في مصر ، عمرو بن العاص ، كتابا يوصيه فيه بأهل الذمة خيرا ، فيقول فيه :
«واعلم ، يا عمرو ، أن الله يراك ويرى عملك ، وأن معك من أهل ذمة وعهد ، وقد أوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهم وأوصى بالقبط ، فقال : «استوصوا بالقبط خيرا ، فإنّ لهم ذمة ورحما» (١) ، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم : «من ظلم معاهدا أو كلّفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة» (٢).
__________________
(١) قوله صلّى الله عليه وسلّم «استوصوا بالقبط» أخرجه الطبرانى فى الكبير ١٩ / ٦١ رقم ١١١ ، ١١٢ ، ١١٣ والحاكم ٢ / ٥٥٣ من طرق عن الزهرى عن ابن كعب بن مالك عن أبيه مرفوعا.
وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبى وذكره الهيثمى فى المجمع ١٠ / ٦٦ وقال رواه الطبرانى باسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح وذكره الهندى فى كنز العمال ٣٤٠١٩ ، ٣٤٠٢٠ وزاد نسبته إلى البغوى وابن سعد وعزاه السخاوى أيضا فى المقاصد ص ٣٨٨ إلى ابن يونس فى تاريخ مصر وذكره الهندى برقم ٣٤٠٢١ عن الزهرى مرسلا وعزاه لابن سعد وذكره برقم ٣٤٠٢٣ وعزاه للطبرانى عن أم سلمة».
(٢) أخرجه أبو داود ٣ / ١٧٠ ، ١٧١ كتاب الخراج والإمارة والفىء باب فى تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا فى التجارات حديث ٣٠٥٢ وفيه مجاهيل وينظر الترغيب ٤٤٢٣.