والثاني : أن في البيت عوضا من «الهاء» المحذوفة ، وهو حرف الإطلاق أعني «الياء» في «اصنعي» ، فتضعف قراءة من قرأ (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) ، وهذا الّذي ذكره ابن عطيّة في الوجه الثّاني كلام لا يعبأ به.
وأمّا الأوّل فقريب من الصّواب ، لكنه لم ينهض في المنع ولا في التّقبيح ، وإنّما ينهض دليلا على الأحسنيّة ، أو على أنّ غيره [أولى](١).
وهذه المسألة ذكر بعضهم الخلاف فيها بالنّسبة إلى نوع ، ونفي الخلاف عنها ، بل حكي الإجماع على الجواز بالنّسبة إلى نوع آخر ، فحكي الإجماع فيما إذا كان المبتدأ لفظ «كل» ، أو ما أشبهها في العموم والافتقار ، فأمّا «كل» فنحو : «كلّ رجل ضربت» ، ويقوّيه قراءة (٢) ابن عامر : «وكل وعد الله الحسنى» [النساء : ٩٥] ويريد بما أشبه «كلّا» نحو : «رجل يقول الحقّ انصر» ، أي : انصره ، فإنه عامّ يفتقر إلى صفة ، كما أنّ «كلا» عامة ، وتفتقر إلى مضاف إليه.
قال : «وإذا لم يكن المبتدأ كذلك ، فالكوفيّون يمنعون حذف العائد ، بل ينصبون المتقدّم مفعولا به ، والبصريّون يجيزون : «زيد ضربت» أي : ضربته» ، وذكر القراءة.
وتعالى بعضهم فقال : «لا يجوز ذلك» ، وأطلق ، إلا في ضرورة شعر كقوله : [السّريع]
١٩٧٨ ـ وخالد يحمد ساداتنا |
|
بالحقّ ، لا يحمد بالباطل (٣) |
قال : «لأنّه يؤدّي إلى تهيئة العامل للعمل ، وقطعه عنه».
والوجه الثاني من التوجيهين المتقدّمين : أن يكون «يبغون» ليس خبرا للمبتدأ ، بل هو صفة لموصوف محذوف ، وذلك المحذوف هو الخبر ، والتّقدير : «أفحكم الجاهلية حكم يبغون» ، وحذف العائد هنا أكثر ، لأنه كما تقدّم يكثر حذفه من الصّلة ، ودونه من الصّفة ، ودونه من الخبر ، وهذا ما اختاره ابن عطيّة ، وهو تخريج ممكن ، ونظّره بقوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ) ، أي : «قوم يحرّفون» يعني : في حذف موصوف ، وإقامة صفته مقامه وإلا فالمحذوف في الآية المنظّر بها مبتدأ ، ونظّرها أيضا بقوله : [الطويل]
١٩٧٩ ـ وما الدّهر إلّا تارتان : فمنهما |
|
أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح (٤) |
أي : تارة أموت فيها.
وقال الزّمخشري (٥) : وإسقاط الرّاجع عنه كإسقاطه في الصّلة ، كقوله : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) [الفرقان : ٤١] ، وعن الصّفة «في النّاس رجلان : [رجل] أهنت ، ورجل أكرمت» أي : رجل أهنته ورجل أكرمته.
__________________
(١) في أ : أهل.
(٢) ينظر : السبعة ٦٢٥ ، والدر المصون ٢ / ٥٤١.
(٣) تقدم.
(٤) تقدم.
(٥) ينظر : الكشاف ١ / ٦٤١.