يعتبر فيها الاجتهاد ، بل يكفي حصول الاطمئنان من الرجوع إلى أقوال خبراء الفن ، كما استقرت عليه سيرة الفقهاء قديما وحديثا ، ولو اعتبر الاجتهاد في مباديه لتعذّر حصوله عادة في هذه الأعمار المتعارفة ، وقد جرت السيرة على الاهتمام بصناعة الاصول ، لأنه مجمع مبادئ الاجتهاد ومؤلف متفرقاتها ، وقد ذكرنا في الجزء الأول عند تعريفه أنه : بداية الاجتهاد ونهاية العلوم الدخيلة في الاستنباط وإن اشتملت على ما ليس فيه ثمرة عملية بل ولا علمية معتنى بها ، كجلّ مباحث الوضع والصحيح والأعم ، والمشتق ، واتحاد الطلب والإرادة ، وبحث الانسداد ونحوها مما هو كثير كما هو واضح على الخبير.
ويكفي في الاجتهاد من الاصول الإحاطة بالمسلّمات والمشهورات بين العقلاء والعلماء وما هو المعتبر لدى الأذهان المستقيمة ، ولا عبرة بالدقيات العقلية والاحتمالات البعيدة لعدم ابتناء الفقه عليها ، كما لا يعتبر إبداء الرأي المسبوق بالعدم في الاصول ، لأن الآراء محصورة بين النفي والإثبات ، بل يكفي الإذعان الاعتقادي عن تأمل واجتهاد بما هو المألوف بين أهل المحاورة في كيفية الاحتجاج والاستظهار ، وتأليفات الفقه الاستدلالي في هذه الأعصار وما قاربها تشتمل على القدر اللازم من الاصول ، ويمكن أن يعد الزائد عليه من الفضول. ومن أهم المبادئ الفضائل النفسانية والعمل بما يوجب التقرب إلى الحضرة الربوبية والتجنب عما يسخطه ، فإن جميع الإفاضات من حضرته وتمام العنايات من ناحيته ، قال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) ، هذا بعض الكلام في أصل الاجتهاد.