الترجيح عندنا ما ورد إلا بكثرة الشهود ، فإن تساووا في العدد ، فأعدلهما شهودا ، والمراد بأعدلهما في هذه المواضع ، أنّ البينتين جميعا شرائط العدالة فيهما ، إلا أن إحداهما أكثر مواظبة على الأعمال الصالحات المندوبات ، وإن كانت الأخرى غير مخلة بواجب ، ولا مرتكبة لقبيح. وليس المراد أنّ إحداهما فاسقة ، والأخرى عادلة ، لأنّ لفظة افعل في لسان العرب ، للمشاركة في الشيء ، والزيادة عليه ، فمن ظنّ أنّ المراد بأعدلهما شهودا غير ما قلناه ، فقد أخطأ خطأ فاحشا.
وبقديم الملك (١) على ما دللنا عليه ، ولا ترجيح بغير ذلك عند أصحابنا ، والقياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا ، فلم يبق إلا استعمال القرعة ، لإجماعهم على أنّ كل أمر مشكل فيه القرعة ، إلا أن يكون مع ذلك الآخر مرجح ، من المرجحات المجمع عليها ، وهي المقدّم ذكرها ، من كثرة العدد ، أو أعدلهما شهودا ، أو بقديم الملك.
ولو قلنا : نرجّح بالسبب ، إذا كان في يد ثالث ، لكان قويا ، وبه أفتي ، لأنّ فيه جمعا بين الأحاديث والروايات ، وعليه الإجماع ، فإنّ المحصلين من الأصحاب ، مجمعون عليه ، قائلون به ، ولأنّ السبب أولى من قديم الملك ، وقد رجحنا بقديم الملك ، لأنّ من شهد بالنتاج والبيع والهبة ، نفى أن يكون ملكا قبله لأحد ، أعني النتاج ، وكان أقوى ، فليتأمّل ذلك.
فهذا تحقيق المسائل المختلفة ، الموضوعة في الجزء الثالث من مسائل الخلاف ، لشيخنا أبي جعفر (٢) فإنّها مختلفة الألفاظ ، وتحريرها ما ذكرناه.
والذي اعتمده واعتقده وأعمل عليه ، بعد هذه التفاصيل جميعها أن لا ترجيح إلا بالعدد ، وبالتفاضل في عدالة البينتين فحسب ، دون الأسباب ، وقدم
__________________
(١) هذه العبارة عطف على قوله : بكثرة الشهود.
(٢) الخلاف : كتاب الدعاوي والبينات ، المسائل ١٣ و ١٤ و ١٥ و ٢.