وأما قوله تعالى : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) ، أي : وما كنت قط عابدا فيما سلف ما عبدتم فيه ، فلا يستقيم ، لأن «عابد» اسم فاعل قد عمل فيما عبدتم ، فلا يفسر بالماضي ، إنما يعتبر بالحال ، أو الاستقبال ، وليس مذهبه في اسم الفاعل مذهب الكسائي ، وهشام في جواز إعماله ماضيا.
وأما قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) ، أي : وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته ف «عابدون» قد أعمله في : «ما أعبد» ، فلا يفسر بالماضي.
وأما قوله : «وهو لم يكن» ، إلى آخره ، فسوء أدب على منصب النبوة ، وغير صحيح ؛ لأنه صلىاللهعليهوسلم لم يزل موحّدا لله تعالى ، منزّها له عن كل ما لا يليق بجلاله سبحانه مجتنبا لأصنامهم يقف على مشاعر إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويحجّ البيت ، وهذه عبادة ، وأي عبادة أعظم من توحيد الله تعالى ونبذ أصنامهم ، ومعرفة الله ـ تعالى ـ أعظم العبادات.
قال الله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦].
قال المفسرون : أي ليعرفون ، فسمى الله تعالى المعرفة به عبادة انتهى.
قال شهاب الدين (١) : ويجاب عن الأول : أنه بنى أمره على الغالب ، فلذلك أتى بالحصر ، وأما ما حكاه سيبويه ، فظاهر معه ، حتى يقوم دليل على غيره ، وعن إعماله اسم الفاعل مفسرا له بالماضي بأنه على حكاية الحال ، كقوله تعالى : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ) [الكهف : ١٨] ، وقوله تعالى : (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) [البقرة : ٧٢] ، وأما كونهصلىاللهعليهوسلم لم يزل منزها موحدا لله تعالى ، فمسلم ذلك. وقوله : «وهذه أعظم العبادات» فمسلم أيضا ، ولكن المراد في الآية عبادة مخصوصة ، وهي الصلاة المخصوصة ؛ لأنها تقابل بها ما كان المشركون يفعلونه من سجودهم لأصنامهم ، وصلاتهم لها ، فقابل هذا صلىاللهعليهوسلم بصلاته لله تبارك وتعالى ، ولكن بقي كلام الزمخشري يفهم أنه صلىاللهعليهوسلم لم يكن متعبدا قبل المبعث ، وهو مذهب ساقط الاعتبار ؛ لأن الأحاديث الصحيحة ترده ، وهي : أنه كان يتحنّث ، كان يتعبد ، كان يصوم ، كان يطوف ، كان يقف ، ولم يقل بخلاف ذلك إلا شذوذ من الناس.
وفي الجملة ، فالمسألة خلافية ، وإذا كان متعبدا فبأي شرع كان يتعبد به؟ فقيل : شريعة نوح عليه الصلاة والسلام.
وقيل : إبراهيم عليهالسلام.
وقيل : موسى.
وقيل : عيسى ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ ، وذلك مذكور في الأصول.
__________________
(١) الدر المصون ٦ / ٥٨٢.