وقال ابن عطية (١) : لما كان قوله : «لا أعبد» محتملا أن يراد به الآن ، ويبقى المستقبل منتظرا ما يكون فيه جاء البيان بقوله : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) أبدا وما حييت ، ثم جاء قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) الثاني حتما عليهم أنهم لا يؤمنون أبدا كالذي كشف الغيب ، كما قيل لنوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ٣٦] ، فهذا معنى التّرديد في هذه السورة ، وهو بارع الفصاحة ، وليس بتكرار فقط ، بل فيه ما ذكرته انتهى.
وقال الزمخشريّ (٢) : «لا أعبد» أريد به العبادة فيما يستقبل ؛ لأن «لا» لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال ، كما أن «أن» لا تدخل إلّا على مضارع في معنى الحال ، ألا ترى [أنّ «لن» تأكيد فيما تنفيه «لا».
وقال الخليل في «لن» : إن أصله :](٣) «لا أن» والمعنى : لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) أي : ما كنت قط عابدا فيما سلف ما عبدتم فيه ، يعني : لم تعهد مني عبادة صنم في الجاهلية ، فكيف ترجى مني في الإسلام ؛ (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي : وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته.
فإن قلت : فهلّا قيل : ما عبدت كما قيل : ما عبدتم؟.
قلت : لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل المبعث ، وهو لم يكن ليعبد الله ـ تعالى ـ في ذلك الوقت.
فإن قلت : فلم جاء على «ما» دون «من»؟ قلت : لأن المراد الصفة ، كأنه قال : لا أعبد الباطل ، ولا تعبدون الحق.
وقيل : إن «ما» مصدرية ، أي : لا أعبد عبادتكم ، ولا تعبدون عبادتي انتهى.
[يعني أنه أريد به الصفة ، وقد تقدم تحقيق ذلك في سورة «والشمس وضحاها»].
وناقشه أبو حيّان ، فقال (٤) : أما حصره في قوله : لأن «لا» لا تدخل ، وفي قوله : إنّ «ما» تدخل ، فليس بصحيح ، بل ذلك غالب فيهما ، لا متحتم ، وقد ذكر النحاة دخول «لا» على المضارع يراد به الحال ، ودخول «ما» على المضارع يراد به الاستقبال ، وذلك مذكور في المبسوطات من كتب النحو. ولذلك لم يذكر سيبويه ذلك بأداة الحصر ، إنما قال (٥) : وتكون «لا» نفيا ، لقوله : «نفعل» ولم يقع الفعل ، قال : «وأمّا «ما» فهي نفي ، لقوله : هو يفعل إذا كان في حال الفعل. فذكر الغالب فيهما.
__________________
(١) المحرر الوجيز ٥ / ٥٣١.
(٢) الكشاف ٤ / ٨٠٨.
(٣) سقط من : أ.
(٤) البحر المحيط ٨ / ٥٢٣.
(٥) ينظر : الكتاب ٢ / ٣٠٥ ـ ٣٠٦.