عباده يقتضي الثاني فيعلم من ذلك أن قوله تعالى : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) ، وما ورد «أن بني إسرائيل كانوا إذا أصابتهم قطرة بول قرضوا لحمهم بالمقاريض». لم يعلم أن ذلك كان تكليفا أوّليا إلهيا ، أو كانت من العقوبات المستعجلة الدنيوية التي رفعت عن امة نبينا الأعظم صلىاللهعليهوآله. مع أن الإصر عبارة عن الضيق ومطلق المشقة وهو أعم من الحرج وغيره ، مثلا وجوب إتيان الفرائض في المساجد ضيق وليس بحرج ، وكذا الفورية في قضاء الصلوات والصيام ونحو ذلك ، والمراد بقوله تعالى : (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) هذا النحو من الضيق لا الحرج المنفي في صدر الآية بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ، وبقوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ). فيستفاد من إطلاقه أن دين الله تعالى لا حرج فيه خصوصا بقرينة قوله : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) ، وكذا إطلاق قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).
ثم إنه كلما تقدم في فقه (لا ضرر ولا ضرار) يجري في (لا حرج في الدين) بلا فرق بينهما من هذه الجهة ، فتجري فيها الأقوال الأربعة المتقدمة. وقد تقدم أن مفادها ترخيصي امتناني لا أن يكون على نحو العزيمة ، فيصح العمل لو تحمل الحرج وأتى به.
إن قلت : بعد سقوط الأمر لأجل الحرج لا وجه لصحة العمل العبادي لتقومها بقصد الأمر.
قلت : سقوط الأمر لا يستلزم سقوط الملاك ، والكاشف عن بقائه مضافا إلى الإطلاقات استصحاب البقاء بعد كون السقوط ترخيصيا لا عزيمة. ولا يلزم من هذا التخيير بين الطهارة الترابية والمائية ـ مثلا ـ في ما إذا كانت الأخيرة مستلزمة للحرج ، لأنه لا ريب في الاختلاف الرتبي بينهما ثبوتا وإثباتا ، ومع ذلك كيف يثبت التخيير الذي لا بد فيه من التساوي من كل جهة.