﴿كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ﴾ لا يشتبهونهم (١) بغيرهم. والتكنية عن الرّسول صلىاللهعليهوآله بالضّمير من غير سبق ذكره لتعظيمه وتفخيمه وللايذان بشهرته غاية الاشتهار ومعروفيّته بغاية المعرفة.
قيل : وجه تخصيص الأبناء بالذكر دون البنات ، أنّهم بصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق. وإنّما لم يقل : كما يعرفون أنفسهم ، لأنّ الانسان لا يعرف نفسه إلّا بعد انقضاء برهة من الزّمان من ولادته ، ولكن يعرف ولده حين ولادته (٢) .
نقل أنّه سئل عبد الله بن سلام عن رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : أنا أعلم به منّي بابني ، لأنّي لست أشكّ في محمّد صلىاللهعليهوآله أنّه نبيّ ، وأمّا ولدي فلعلّ والدته خانت (٣) .
﴿وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ﴾ وهم المصرّون على اللّجاج دون فريق آخر كعبد الله بن سلّام وأضرابه ﴿لَيَكْتُمُونَ الْحَقَ﴾ عنادا وتحفّظا لرئاستهم الباطلة ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنّ محمّدا نبيّ ، وأنّ الكعبة قبلة الله ، وأنّ كتمان الحقّ من أقبح المعاصي.
﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)﴾
ثمّ لمّا كان تغيير القبلة غريبا في الأنظار ، ومجالا لشبهات الكفّار ومقالاتهم ، وكانت قلوب ضعفاء المؤمنين معرضا للتزلزل والشّكّ في دينهم ، أكّد الله أمر القبلة بقوله : ﴿الْحَقُ﴾ الذي أنت يا محمّد عليه من أمر القبلة نازل ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ اللّطيف ، بل المتفضّل عليك ، فإذا كان ذلك ﴿فَلا تَكُونَنَ﴾ فيه ﴿مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ والشاكّين. والمقصود من نهيه نهي امّته عن الامتراء ، من باب ( إيّاك أعني واسمعي يا جارة ) ومرجع نهيهم عنه أمرهم بضدّه الذي هو اليقين وطمأنينة القلب.
قيل : إنّ الحقّ مفعول ليعلمون ، ومنصوب به.
إن قيل : كيف يمكن أن يكون النبيّ صلىاللهعليهوآله أعرف من أبنائهم عندهم إلّا إذا كان في التّوراة والإنجيل بيان جميع مشخّصاته ؛ من صفاته ، وصورته ، وشمائله ، واسمه ، واسم أبيه ، وامّه ، ونسبه ، وقبيلته ، وزمان ظهوره. وإذا كان ذلك كان هو صلىاللهعليهوآله معروفا بين المشرق والمغرب لمعروفيّة الكتابين في أطراف العالم. فإذن لم يمكن لأحد من اليهود والنّصارى إنكاره.
__________________
(١) كذا ، وفي روح البيان ١ : ٢٥٢ لا يشتبه عليهم كما لا يشتبه أبناؤهم.
(٢) روح البيان ١ : ٢٥٢.
(٣) تفسير الرازي ٤ : ١٢٨.