وروي عن ( تفسير الإمام ) وعن ابن عبّاس : أنّ المراد بتمنّي الموت أن يدعو الفريقان بالموت على الكاذب منهما فيكون نظير المباهلة (١) . وهذا خلاف المشهور بين المفسّرين.
روي عن نافع أنّه جلس إلينا يهوديّ يخاصمنا ، فقال : إنّ في كتابكم ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ وأنا اتمنّى ، فما لي لا أموت ؟ فسمع ابن عمر هذا فدخل بيته وأخذ السّيف ثمّ خرج ، ففرّ اليهوديّ حين رآه. فقال ابن عمر : أما والله لو أدركته لضربت عنقه ، توهّم هذا الجاهل أنّه لليهود في كلّ وقت ، إنّما هو لاولئك الذين يعاندونه ويجحدون نبوّته بعد أن عرفوه (٢) .
إن قيل : إن المؤمنين أجمعوا على أنّ الجنّة للمؤمنين دون غيرهم ، ثمّ ليس أحد منهم يتمنّى الموت ، فكيف وجه الاحتجاج على اليهود ؟
قلت : إنّ المؤمنين لم يدّعوا أنّهم أبناء الله وأحبّاؤه ، وأنّ الجنّة خالصة لكلّ واحد منهم كما أدّعاها اليهود.
ثمّ بعد المحاجّة عليهم وتبكيتهم ، هدّدهم بقوله : ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهم بالكفر والطغيان ، لا يخفى عليه سوء حالهم وشناعة أعمالهم ، فيجازيهم بأسوأ مجازاة.
﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ
أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦)﴾
ثمّ أخبر الله بأنّهم مأيوسون عن نعيم الآخرة بقوله : ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ﴾ طويلة في الدنيا ، بل ﴿وَ﴾ أحرص عليها ﴿مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ بالله ولم يؤمنوا بالمعاد ، فإنّهم لزعم أنّ الدنيا جنّة لهم ، يكونون أكثر حبّا للحياة وأشدّ حرصا على التعيّش فيها.
وهؤلاء اليهود مع اعتقادهم بالمعاد والجنّة ، وادّعائهم أنّها خالصة لهم ، لعلمهم بأنّهم محرمون عن الجنّة ونعيمها وصائرون إلى النّار وأشدّ العذاب بسبب وضوح كفرهم عندهم وعنادهم للحقّ ، يكونون أحرص على التعيّش في الدنيا من المشركين بحيث : ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ﴾ ويتمنّى ﴿لَوْ يُعَمَّرُ﴾ فيها ﴿أَلْفَ سَنَةٍ﴾ قيل : تخصيص ألف سنة بالذّكر لأنّ عادة المجوس القائلين بالنّور والظلمة أنّهم
__________________
(١) تفسير الرازي ٣ : ١٩١ ، تفسير ابن كثير ١ : ١٣٢ ، التفسير المنسوب إلى الامام العسكري : ٤٤٣.
(٢) تفسير روح البيان ١ : ١٨٤.