من غير تدبّر وتفكّر فيها قليلة النفع ، قال تعالى : ﴿كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ﴾(١) فإنّه تعالى جعل التدبّر غاية للإنزال ، وقال تعالى توبيخا : ﴿أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها﴾(٢) إلى غير ذلك من الآيات.
عن ابن مسعود رضى الله عنه : أنّ رجلا قال له : إنّي أقرأ المفصّل في ركعة واحدة. فقال : هذّا كهذّ الشّعر ، إنّ قوما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع (٣) .
وعنه رضى الله عنه قال : لا تنثروه نثر الدّقل (٤) ، ولا تهذّوه هذّ الشّعر ، قفوا عند عجائبه ، وحرّكوا [ به ] القلوب ، ولا يكون همّ أحدكم آخر السورة (٥) ، وقد مرّ ما يقرب من ذلك (٦) . ولذا روي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : « لا يعجبني أن يقرأ القرآن في أقلّ من شهر » (٧) .
فتبيّن من جميع ذلك أنّ مقدار فضيلة تلاوة القرآن على مقدار تدبّر القارئ ، فإنّ تلاوة جزء بتدبّر وتفكّر فيه أفضل من قراءة جزءين أو أكثر في قدر ذلك الزّمان بلا تدبّر وتفكّر وترتيل.
وحينئذ لو فرضنا قدرة القارئ على ختم القرآن في ليلة واحدة مع حقّ التدبّر فيه ، كان فضيلته أزيد من ختمه في ليلتين ، فالأخبار النّاهية عن ختمه في ليلة أو ليلتين ناظرة إلى حال نوع المؤمنين ، فإنّهم عاجزون عن أداء حقّ تلاوته في أقلّ من ثلاث ، وعلى هذا تختلف المدّة باختلاف قدرة التّالي على الختم مع التدبّر ، ولذا اختلفت الأخبار في تقدير المدّة على حسب اختلاف الأشخاص.
عن عبد الله بن عمر ، قال : قال لي رسول الله صلىاللهعليهوآله : « اقرأ القرآن في شهر » . قلت : إنّي أجد قوّة. قال : « اقرأه في عشر » . قلت : إنّي أجد قوّة. قال : « اقرأه في سبع ولا تزد على ذلك » (٨) .
وفي رواية اخرى : قال : يا رسول الله ، في كم أقرأ القرآن ؟ قال : « في خمسة عشر » . قلت : إنّي أقوى من ذلك. قال : « اقرأه في جمعة » (٩) .
قيل : كان للسّلف في قدر القراءة عادات مختلفة ، فأكثر ما ورد في كثرة قراءتهم من كان يختم في اليوم والليلة ثمان ختمات ؛ أربعا في اللّيل ، وأربعا في النّهار ، ويليه من كان يختم في اليوم واللّيلة
__________________
(١) سورة ص : ٣٨ / ٢٩.
(٢) محمد صلىاللهعليهوآله : ٤٧ / ٢٤.
(٣) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٣٦٧.
(٤) الدّقل : رديء التّمر ويابسه.
(٥) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٣٦٧.
(٦) تقدّم في الطرفة الحادية والثلاثين.
(٧) إقبال الأعمال : ١١٠. (٨) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٣٦١.
(٩) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٣٦١.