بالمؤمن ، كأنّه ينوب عن المؤمن في الاستهزاء بالمستهزئ به ، ويجازيهم بالهوان والخيبة في الدنيا ، وبتعذيب يضحك به المؤمن في الآخرة.
ثمّ أكّد الله تعالى تهديدهم ، بقوله : ﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ ويزيدهم ويقوّيهم ﴿فِي طُغْيانِهِمْ﴾ وبتجاوزهم عن الحدّ في العناد والإصرار على الكفر والعصيان ، وإنّما إمداده تعالى لهم يكون بالإمهال والخذلان في الدنيا بسبب منع الألطاف عنهم ، حتّى يتزايد في المدّة الطويلة من أعمارهم الرّين والظلمة في قلوبهم ، فيستحقّون زيادة العذاب والنّكال في الآخرة.
ولذا فسّر القمي رحمهالله : المدّ ، بالدّعة ، حيث قال : أي يدعهم (١) ، حال كونهم في مدّة تعيّشهم في الدنيا ﴿يَعْمَهُونَ﴾ ويتردّدون في الضّلالة عمي القلوب ، حيارى ، لا يدرون أين يتوجّهون ، وفي أيّ طريق يسلكون ، إذ لا يمكنهم الجمع بين الإسلام والكفر ، وصحبة الأبرار والفجّار ، فهم ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ﴾(٢) بل هذا حال كلّ من أراد الجمع بين الدنيا والآخرة مع أنّهما ضرّتان.
ثمّ بيّن الله تعالى غاية سفاهتهم ، وضعف عقولهم ، بقوله : ﴿أُولئِكَ﴾ المنافقون المتميّزون عن سائر النّاس بأقبح الصفات ، البعيدون من رحمة الله ، هم ﴿الَّذِينَ اشْتَرَوُا﴾ وبادلوا ﴿الضَّلالَةَ بِالْهُدى﴾ واختاروا لأنفسهم الكفر بعوض الإيمان ، والباطل بعوض الحقّ الذي جاءهم من قبل الله ، وكأنّهم تملّكوه ثمّ رفعوا اليد عنه ، وأخذوا الكفر بدله فكأنّهم عاوضوه به ، فأيّ صفقة أخسر من هذه؟
ثمّ كأنّه يقال : فما يكون حال المشترين ؟ فيقال : إذا اشتروا ﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ﴾ بل خسرت خسرانا مبينا ، حيث فاتهم نعيم الأبد ، ولازمهم العذاب المخلّد ﴿وَما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ إلى طريق النّجاة وما كانوا عالمين بصلاح المعاملة ، ولذا ابتلوا بغاية الخسارة حيث إنّ المقصود من التجارة سلامة رأس المال مع حصول الرّبح ، وهم لجهلهم وغباوتهم أتلفوا رأس المال من الفطرة السّليمة والعقل المستقيم ، والعمر الطويل في متجر الدنيا وسوقها المعدّ لتحصيل الرّبح الدائم والثّواب العظيم ، بهذا المتاع الذي أعطاهم الله إيّاه.
عن العالم عليهالسلام : « وما كانوا مهتدين إلى الحقّ والصواب » (٣) .
وعن القمّي رحمهالله في تفسير الضّلالة والهدى ، قال : الضّلالة هاهنا : الحيرة ، والهدى : البيان. فاختاروا
__________________
(١) تفسير القمي ١ : ٣٤.
(٢) النساء : ٤ / ١٤٣.
(٣) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليهالسلام : ١٢٦.