العقل وشؤون الانسانيّة وطريق الحقّ والصواب.
ثمّ كأنّه قيل : من الفاسقون ؟ فعرّفهم أوّلا بفساد العقائد بقوله : ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ﴾ ويخالفون ﴿عَهْدَ اللهِ﴾ الذي أخذ منهم على توحيده ورسالة رسوله وولاية عليّ والمعصومين من ذرّيّته عليهمالسلام ، ووجوب طاعتهم ، ومحبّة المؤمنين ومودّتهم في عالم الذّرّ ، بقوله : ﴿أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾(١) وفي هذا العالم بإقامة الحجج القاطعة والبراهين السّاطعة الّتي هي في حكم العهد ﴿مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ﴾ وإحكامه ، وإتقانه.
ثمّ ذمّهم ثانيا بالإساءة إلى الأقارب بقوله : ﴿وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ من الأرحام والقرابات النّسبيّة الجسمانيّة بترك تعاهدهم ومنع حقوقهم ، ومن القرابات الرّوحانيّة وهم الأنبياء والأوصياء الذين هم آباء اممهم وأشياعهم لتوليدهم روح الإيمان في قلوبهم ، ولكون طينتهم من سحالة (٢) طينتهم الطيّبة ، والمؤمنون الذين هم إخوة حقيقة في الدنيا والآخرة ، لكونهم بجهة إيمانهم أولاد آب واحد وهو نبيّهم ، وفي تربية مربّ واحد هو الإمام والوصيّ ، وكون جميعهم مخلوقين من أصل واحد وطينة واحدة ، ولذا جعل الله بينهم حقوق الإخوة.
في الحديث : « إذا أظهر النّاس العلم وضيّعوا العمل به ، وتحابّوا بالألسن وتباغضوا بالقلوب ، وتقاطعوا الأرحام ، لعنهم الله عند ذلك فأصمّهم وأعمى أبصارهم » (٣) .
ثمّ ذمّهم ثالثا بفساد الأعمال بقوله : ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ بقبض الحقوق ، وتشييد الكفر ، وتضعيف الإسلام ، والصّدّ عن سبيل الحقّ ، وإلقاء الشبه في قلوب المؤمنين ﴿أُولئِكَ﴾ الموصوفون بتلك الصفات الذميمة ﴿هُمُ الْخاسِرُونَ﴾ في تجارتهم ، المغبونون في معاملتهم ، كأنّه لغاية خسارتهم لا يكون خاسر سواهم ، حيث إنّهم حرموا الجنّات والنّعيم الأبد ، ولزمهم النّيران والعذاب المخلّد.
ثمّ لمّا حكى الله تعالى مقالة الكفّار وتهكّمهم بالقرآن ، وشدّة كفرهم ، ونهاية طغيانهم وعصيانهم ، وجّه الخطاب إليهم بالتوبيخ والتقريع بقوله : ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ﴾ وبوحدانيّته ، ﴿وَ﴾ الحال أنّكم ﴿كُنْتُمْ أَمْواتاً﴾ لا حياة لكم ، ونطفا في أصلاب آبائكم وأرحام امّهاتكم ﴿فَأَحْياكُمْ﴾ بخلق الأرواح ونفخها في أجسادكم بلا مزاج ، فبدأ الله بتذكيرهم ما هو الأصل لجميع النعم ، وهو نعمة الحياة ، لأنّه
__________________
(١) الأعراف : ٧ / ١٧٢.
(٢) السّحالة : برادة الشيء أو ما يسقط منه أو قشره.
(٣) تفسير روح البيان ١ : ٨٨.