ونسبوها إلى الكذب وقالوا : إنّه لا برهان على صدق دعوى مدّعي النبوّة إلّا نفوذ قوله وتأثيره في النفوس وقبول الناس.
وكما نرى من أهل السنّة من القول بعدم لزوم عصمة الإمام ، حتّى يتمشّى من الفرقة الأولى دعوى النبوّة أو مرتبة فوقها ، ومن الفرقة الثانية دعوى إمامة أئمّتهم مع اتّفاق المسلمين على أنّهم كانوا مشركين في المدّة المديدة من عمرهم.
ولمّا رأينا أنّ نبيّنا صلىاللهعليهوآله بالغ في كتابه العزيز في تعظيم سائر الأنبياء أكثر من تعظيم أممهم لهم ، وأثبت لهم من المعجزات وخوارق العادات أزيد ممّا اعتقد بها المؤمنون بهم ، كتكلّم عيسى عليهالسلام في (١) المهد ، وعروجه حيّا إلى السّماء ، وإلقاء شبهه على غيره ، ثم ادّعى لنفسه النبوّة ، بل ادّعى أنّه أفضل وأعظم شأنا من الأنبياء الذين هم ذوو المعاجز الباهرة ، ثم علمنا أنّه آمن به كثير من العقلاء وجمع من امم سائر الأنبياء كاليهود والنّصارى وغيرهم من مشركي العرب مع نهاية افتتانهم بآلهتهم وكمال ثباتهم في ملّتهم ، علمنا أنّ هذا المدّعي للنبوّة كان قادرا على ما كان سائر الأنبياء قادرين عليه من المعجزات ، وأتى بخارق عادة دالّ على صدقه كما أتى غيره من الأنبياء ، وكان له من العلم ما كان لهم ، ومن الأخلاق والأعمال ما يشبه أخلاقهم وأعمالهم ، وإلّا لم يكد يمكن أن ينتظم آخره ، ويبهر نوره ، ويزداد على الشمس ظهوره.
إن قيل : إنّ كتابه ناطق أنّه لم يكن له معجزة من معاجز موسى بن عمران عليهالسلام حيث قال سبحانه : ﴿فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى﴾(٢) بل فيه آيات دالّة على أنّه لم يكن له معجزة أصلا كقوله تعالى : ﴿وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ﴾(٣) ثمّ لم يجبهم الرسول بأنّي قد جئتكم بما جاء به موسى أو : آتيكم بعد به ، أو : أتيتكم بمثل ما أتى به سائر الأنبياء والرّسل ، بل أجابهم بقوله : ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ﴾(٤) أو قوله : ﴿فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ﴾ أو قوله : ﴿إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾(٥) وأمثال ذلك.
قلنا : إنّه يكفي في إثبات النبوّة إتيان أمر خارق للعادة بحيث يكون إيجاد الله له بيد ذلك النبيّ تصديقا منه تعالى لدعواه ، وإن لم يكن من أنواع إعجاز سائر الأنبياء ، كما أنّه كان لكل واحد من أنبياء
__________________
(١) في النسخة : على.
(٢) القصص : ٢٨ / ٤٨.
(٣) يونس : ١٠ / ٢٠.
(٤) القصص : ٢٨ / ٤٨.
(٥) العنكبوت : ٢٩ / ٥٠.