الحكم الكلّيّ.
ولمّا كان العبد الضّعيف إذا دخل في مجلس الملك العظيم لا بدّ له من أن يستقبله بوجهه ولا يكون معرضا عنه ، وأن يبالغ في الثّناء عليه والتضرّع له والقيام بخدمته ؛ كان استقبال القبلة في الصّلاة جاريا مجرى كونه مستقبلا للملك ، غير معرض عنه ، والقراءة والتّسبيحات جارية مجرى الثّناء عليه ، والرّكوع والسّجود جاريان مجرى خدمته.
ثانيها : أنّ المقصود من الصّلاة حضور القلب ، ولا يحصل إلّا مع السّكون وترك الالتفات والحركة ، وهذا لا يتأتّى إلّا إذا بقي في جميع صلواته مستقبلا لجهة واحدة على التّعيين ، فإذا اختصّ بعض الجهات بشرف كان الاستقبال إليها أولى.
ونقل عن زردشت أنّه قيل له : اجعل لنا قبلة إذا أردنا أن نتوجّه إلى الله نتوجّه إليها ؟
قال : أشرف الموجودات الجسمانيّة هو النّور ، فتوجّهوا له ، فبنوا بيوت النّار فتوّجهوا إليها بعنوان أنّها قبلة.
ثالثها : أنّ الله تعالى يحبّ الموافقة والألفة بين المؤمنين ، وقد ذكر المنّة بها عليهم ، حيث قال : ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ إلى قوله : ﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً﴾(١) . ولو توجّه كلّ واحد في صلواته إلى ناحية اخرى ، لكان ذلك يوهم اختلافا ظاهرا ، فعيّن الله لهم جهة واحدة ، وأمرهم جميعا بالتّوجة إليها ، ليحصل لهم الموافقة بسبب ذلك. وفية إشارة إلى أنّ الله تعالى يحبّ الموافقة بين عباده في أعمال الخير (٢) .
في حكمة جعل الكعبة قبلة
ثمّ ذكروا لتعيين جهة الكعبة حكما :
أحدها : أنّ الله تعالى خصّ الكعبة بإضافتها إلى نفسه بقوله : ﴿طَهِّرْ بَيْتِيَ﴾(٣) وخصّ المؤمنين بإضافتهم بصفة العبوديّة إليه ، وكلتا الإضافتين للتّكريم ، فكأنّه تعالى قال : يا مؤمن ، أنت عبدي ، والكعبة بيتي ، والصّلاة خدمتي ، فأقبل بوجهك إلى بيتي في خدمتي ، وبقلبك إلى عظمتي.
ثانيها : أنّه قيل : إنّ بعض اليهود استقبلوا إلى المغرب لأنّ النّداء جاء إلى موسى عليهالسلام منه ، كما قال الله تعالى : ﴿وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا﴾(٤) والنّصارى استقبلوا المشرق لأنّ جبرئيل ذهب إلى مريم من جانب المشرق ، كما قال تعالى : ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً
__________________
(١) آل عمران : ٣ / ١٠٣.
(٢) تفسير الرازي ٤ : ٩٤.
(٣) الحج : ٢٢ / ٢٦.
(٤) القصص : ٢٨ / ٤٤.