وَالْمَغْرِبُ﴾ وبه تختصّ جميع الجهات ، ليس أحدها أقرب إليه وأخصّ به من الأخرى ، وهو ﴿يَهْدِي﴾ بأمره ﴿مَنْ يَشاءُ﴾ هدايته من أهل العالم ﴿إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ والطريق الموصل إلى قربه ورضوانه ، وهو التوجّه إلى الجهة التي فيها الحكمة ومصلحة العباد ، فتارة تكون بيت المقدس ، واخرى الكعبة ، وإنّما كان التوجّه إلى الكعبة صراطا مستقيما لأنّه غير مائل إلى قبلة اليهود وهو بيت المقدس ، وإلى قبلة النّصارى وهو المشرق ، فإنّ المشرق والمغرب مضلّة حيث إنّ في التوجّه إليهما مظنّة التوجّه إلى الشّمس وعبادتها.
وقيل : وجه تقديم هذه الآية على آية : ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ﴾(١) والإتيان فيها بفعل المضارع ، تقدّم نزولها على تحويل القبلة وحصول الاعتراض ، حيث إنّ قبل الرّمي يراش السّهم ، وقبل توجّه الاعتراض يعلّم المؤمنون بيان ردّه ، وفيها دلالة على إمكان النسخ ووقوعه.
وحاصل تقرير الجواب : أنّ جميع الأرض ملك لله ، ونسبتها إليه تعالى سواء ، ليس مكان أقرب إليه وأخصّ به من مكان آخر ، وإنّما المصلحة في جعل جهة القبلة متفاوتة في الأزمنة ، فقد تكون المصلحة في الأمر بالتوجّه إلى بيت المقدس في برهة من الزمان ، ثمّ تتغيّر وتكون في الأمر بالتوجّه إلى الكعبة ، فتغيير الحكم ليس من جهة انكشاف الخطأ في تشخيص المصلحة حتّى يلزم البداء المحال.
وأمّا شبهة التجهيل فواضحة البطلان ، فإنّ عدم الإعلام ليس تجهيلا قبيحا لبداهة عدم وجوب الإعلام بالتّكليف بقيوده وغايته قبل وقت الحاجة.
في بيان حكمة جعل القبلة
ثمّ اعلم أنّه ذكر بعض لتعيين القبلة حكما عديدة :
إحداها : أنّ الله تعالى خلق في الإنسان قوّة عاقلة مدركة للمجرّدات والمعقولات ، وقوّة خياليّة متصرّفة في عالم الأجسام والمحسوسات ، وقلّما تنفكّ القوّة العاقلة عن مقارنة القوّة الخياليّة ومصاحبتها والاستعانة بها.
فإذا أراد الإنسان استحضار أمر عقليّ مجرّد ، وجب أن يضع له صورة خياليّة حتّى تكون تلك الصورة الخياليّة معينة على إدراك ذلك المعنى العقليّ ، ولذلك يضع المهندس - إذا أراد إدراك حكم من أحكام المقادير - صورة معيّنة وشكلا معيّنا ، ليصير الحسّ والخيال معينين على إدراك ذلك
__________________
(١) البقرة : ٢ / ١٤٤.