للوحي.
وروي من طرق العامّة أنّه صلوات الله عليه وآله كان يقع في روعه ويتوقّع من ربّه أن يحوّله إلى الكعبة ، لأنّها قبلة أبيه إبراهيم عليهالسلام وأقدم القبلتين. وأدعى للعرب إلى الإيمان من حيث إنّها كانت مفخرة لهم وأمنا ومزارا ومطافا ، ولمخالفة اليهود ، فإنّهم كانوا يقولون إنّه يخالفنا في ديننا ، ثمّ إنّه يتّبع قبلتنا ، ولو لا نحن لم يدر أين يستقبل. فعند ذلك كره أن يتوجّه إلى قبلتهم - إلى أن قال - إنّه صلىاللهعليهوآله جعل يديم النّظر إلى السّماء رجاء أن يأتيه جبرئيل بالذي سأل ربّه ، فأنزل الله هذه الآية (١) .
ثمّ اعلم أنّ توضيح معنى كراهة النبيّ صلىاللهعليهوآله التوجّه إلى الصّخرة بعد ما اتّصلت به مقالات اليهود ، أنّه لاتّصال نفسه المقدّسة باللّوح المحفوظ ، واطّلاعه على انقضاء عدّة الصّلاح العارضيّ الذي كان في التوجّه إلى الصّخرة ، وتحقّق الصّلاح الملزم في التوجّه إلى الكعبة ، كره التوجّه إلى الأوّل ، وأحبّ التوجّه إلى الثاني ، فكان ينتظر الوحي وصدور الأمر من الله.
ثمّ لمّا كان تمام الصّلاح في حكمه تعالى متوقّفا على أن يقع التّحويل باستدعائه وإظهار رضاه به ، وكراهته عن التوجّه إلى قبلة اليهود ، وكان ذلك مصادفا لمقالاتهم الشّنيعة ، أظهر عليهالسلام تلك الكراهة وذلك الرّضا ، وسأل ودعا ، فأبان الله عظمة شأن حبيبه عنده بإجابة دعائه وموافقة رضاه بقوله : ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ﴾ ولنعطينّك ﴿قِبْلَةً تَرْضاها﴾ ولنجعلنّك متمّكنا من استقبال جهة تحبّها لمصالح دينيّة من غير [ دواعي ] الهوى النفسانيّة.
قيل : إنّه تعالى قال : ﴿قِبْلَةً تَرْضاها﴾ ولم يقل قبلة أرضاها للإشارة إلى أنّ جميع الكائنات يطلب رضاي وأنا أطلب رضاك في الدّارين ، أمّا في الدّنيا فبتحويل القبلة ، وأمّا في الآخرة فبالعفو عن أمّتك حتّى ترضى (٢) .
﴿فَوَلِ﴾ وحوّل ﴿وَجْهِكَ﴾ مع جميع مقاديم بدنك في حال صلاتك ﴿شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ﴾ ونحوه ، وفي ذكر الشّطر إشعار بكفاية مراعاة الجهة وعدم لزوم الاستقبال الحقيقيّ لعين الكعبة بحيث إذا خطّ مستقيما انتهى إليها.
وقيل : إنّ فيه إشعارا بوجوب التّوجّه إلى العين لوقوع الكعبة في شطر المسجد وهو نصفه ، والحقّ هو الأوّل.
__________________
(١) تفسير روح البيان ١ : ٢٥١.
(٢) تفسير الرازي ٤ : ٩٥.