منها : أنّ في الآية الاولى - وهي قوله : ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ﴾(١) - بيان حكم أهل المسجد ، وفي الآية الثانية بيان حكم أهل المدينة ، وفي الثالثة بيان حكم من كان في خارج المدينة وأقطار العالم.
ومنها : أنّ المرّة الاولى توطئة لبيان أنّ أهل الكتاب يعلمون أنّ أمر نبوّة محمّد صلىاللهعليهوآله وأمر القبلة حقّ. والمرّة الثانية لبيان أنّ الله يعلم أنّه الحقّ ، والمرّة الثالثة لبيان ذكر علله ، فلاختلاف الفوائد حسن التكرار.
ومنها : أنّ في المرّة الاولى بيان حكم القبلة ، وفي الثانية التّنبيه على أنّه ليس لمحض رضاك بغير ملاحظة صلاح فيه ، بل لعلم الله بأنّه الحقّ وذو صلاح تامّ. وفى الثالثة بيان دوام هذا الحكم ، بحيث لا يتطرّق إليه النّسخ.
وقيل : إنّ في المرّة الاولى إشارة إلى أنّ أحد علل التّحويل حبّ النبي صلىاللهعليهوآله إيّاها من حيث إنّها قبلة إبراهيم عليهالسلام وأشرف بقاع الأرض ، ومورد توجّه العرب.
وفي الثانية إشعار بأنّ لكلّ صاحب دعوة وشريعة قبلة مخصوصة ، فاختار الله لهذه الأمّة التي هي أفضل الامم أشرف البقاع والجهات.
وفي الثالثة دلالة على أنّ فيه قطع حجج اليهود والمشركين (٢) حيث قال : ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ﴾ من المشركين واليهود ﴿عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ واعتراض ، حيث إنّ مشركي العرب كانوا يقولون إنّ محمّدا ليس على ملّة إبراهيم عليهالسلام إذ قبلة إبراهيم عليهالسلام بيت الكعبة وقبلة محمّد بيت المقدس ، وإنّ اليهود كانوا يقولون : إنّ النبيّ الموعود من صفاته أنّه يصلّي إلى الكعبة بعد أن كان يصلّي إلى الصّخرة ، فلو دمتم على الصّلاة إلى بيت المقدس صرتم ملزمين بحجّة الفريقين. وكان يقع الطعن في نبوّة محمّد صلىاللهعليهوآله ودينه ، فبتغيير القبلة انقطعت مقالات النّاس (٣) .
﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ أنفسهم وعاندوا الدّين الحقّ من مشركي العرب الذين يقولون : بدا لمحمّد فرجع إلى قبلة آبائه ، فيوشك أن يرجع إلى دينهم. ومن اليهود الذين يقولون : إنّ محمّدا ما ترك قبلتنا إلّا حبّا لبلده ، وميلا إلى دين قومه ، ولو كان على الحقّ للزم قبلة الأنبياء ولم يعرض عنها. ومن الواضح أنّ هذه الأباطيل غير لائقة للجواب ، وإطلاق الحجّة عليها تهكّم أو جري على اعتقادهم حيث إنّهم يسوقونها مساقها.
__________________
(١) البقرة : ٢ / ١٤٤.
(٢) تفسير الرازي ٤ : ١٣٧.
(٣) تفسير الرازي ٤ : ١٣٩.