ثمّ شرع الله تعالى في إقامة البرهان على وحدانيّته ، ومن الواضح أنّ الاستدلال بالآثار على وجود المؤثّر أقرب إلى فهم العامّة ، ولذا جرت سيرته تعالى في الكتاب العزيز بالاستدلال على وجوده ووحدانيّته بمخلوقاته العجيبة ومصنوعاته البديعة ، مع أنّ من توغّل في التفكّر في مخلوقاته تعالى كان أكثر علما بجلال الله وعظمته وقدرته وحكمته.
ثمّ لمّا كان من أظهر الآيات وأعظمها في أنظار العامّة خلق السّماوات ، بدأ بذكره ، بقوله : ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ﴾ السّبع أو التسع وإنشائها على سبيل الاختراع والإبداع بلا عمد تمنعها من السّقوط ، وعلاقة تحبسها عن الوقوع.
ثمّ ثنّاه بذكر الآية التي هي دون السّماوات وفوق غيرها في العظمة ، بقوله : ﴿وَ﴾ في خلق ﴿الْأَرْضِ﴾ مع ما فيها من أعاجيب وبدائع الصنائع التي يعجز عن فهمها عقول البشر.
قيل : إنّما جمع السّماوات وأفرد الأرض ، للإشعار بأنّ كلّ سماء ليست من جنس الاخرى بخلاف الأرضين ، فإنّها كلّها من جنس واحد وهو التّراب (١) .
ثمّ ذكر الآية الاخرى التي تكون من توابع خلق السّماوات بقوله : ﴿وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ﴾ وتعاقبهما بحيث يخلف كلّ واحد منهما الآخر ، أو المراد اختلافهما بالجنس والهيئة والصّفات والمنافع ، حيث إن الليل جعل سكنا وراحة لظلمته لأن لا ينهك الأبدان بشدّة الكدّ والتعب ، والنّهار مبصرا لطلب المعاش وأبتغاء فضل الله.
ثمّ ذكر الآية التي تكون من خواصّ الأرض بقوله : ﴿وَالْفُلْكِ﴾ وهي السّفن ﴿الَّتِي تَجْرِي﴾ وتسير ﴿فِي الْبَحْرِ﴾ مصحوبة ﴿بِما يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ من الأمتعة.
في وجه كون الفلك وسيرها في البحر من آيات الله
وإنّما جعل خلق الفلك وسيرها من آياته مع أنّها مصنوعات خلقه ؛ لأنّ في خلق أجزائها بحيث تستقرّ على البحر في أمد بعيد لا تغرق ولا تغوص فيه ، كما إذا كان كلّها من حديد ، وتسخير البحر لها بحيث تجري فيه بسهولة ، وتعليم صنعها حمولة (٢) بحيث تنقل بها الأمتعة النافعة من بلد إلى بلد ، وإرسال الرّياح غير العاصفة لتحريكها وتسييرها بسرعة ، وتقوية القلوب لركوبها ، وجعل الأمتعة فيها حتّى ينتفع عموم النّاس بأشياء نافعة مختصّة ببعض البلاد ، حيث إنّه من الواضح اختصاص بعض البلاد ببعض الأمتعة التي يحتاج إليها أهل البلاد
__________________
(١) تفسير روح البيان ١ : ٢٦٧.
(٢) كذا.