أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي
الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)﴾
ثمّ لمّا كان من دلائل صدق النّبيّ موافقة أحكام شريعته للعقول السّليمة والأذهان المستقيمة ، كانت تلك الأحكام دليلا على صدق النّبيّ صلىاللهعليهوآله في دعوى نبوّته. وعلى أنّه المبشّر به في التّوراة ، ومع ذلك أنكر عليه اليهود وكتموا ما يدلّ على نعوته في كتابهم ، فلذلك هدّدهم على كتمانهم طلبا للزخارف الدنيويّة بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ﴾ ويطلبون بدل كتمانهم نعوت محمّد صلىاللهعليهوآله ﴿ثَمَناً قَلِيلاً﴾ وعوضا يسيرا من متاع الدّنيا.
﴿أُولئِكَ﴾ الكاتمون ﴿ما يَأْكُلُونَ﴾ وما يجرون بالمآكل التي (١) يصيبونها من سفلتهم ﴿فِي بُطُونِهِمْ﴾ شيئا ﴿إِلَّا النَّارَ﴾ في الآخرة عقوبة على أكلهم الرّشا.
في أنّ للأموال المحرمة صورة برزخية
قيل : إنّ إطلاق النّار على مآكلهم من باب إطلاق المسبّب على السّبب (٢) . ويمكن أن يكون الاطلاق من باب الحقيقة باعتبار أنّ الأموال المحرّمة صورتها البرزخيّة صورة النّار ، ولكن لا يشعرون بحقيقتها وصورتها المعنويّة ، حتّى إذا هبّت عليهم ريح عالم البرزخ والآخرة ، فعند ذلك تشتعل في بطونهم.
ويؤيّده أنّه نقل أنّ عالما حضر في محضر سلطان ظالم فأمر السلطان بإحضار الطّعام ، فأحضروا الأطعمة الطيّبة ، فأمر السّلطان العالم بأكلها ، فأبى العالم ، فأصرّ السّلطان ، فقال العالم : هذه الأطعمة دماء المظلومين. فقال السّلطان مستهزئا به : كيف تكون هذه الأطعمة اللّذيذة دماء ؟ ! فأخذ العالم لقمة منها فعصرها فصبّ الدّم من بين أصابعه ، وعلى ذلك يحمل ما روي من أنّ الشّارب في آنية الذّهب والفضّة إنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم (٣) .
﴿وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ بكلام فيه لطف وعطوفة (٤) كما يكلّم به أهل الجنّة.
وقيل : إنّ ترك الكلام كناية عن نهاية الإعراض ، حيث إنّ عادة الملوك أنّهم لا يكلّمون من يعرضون عنه عند الغضب ، ويكلّمون من يرضون عنه بالبشر واللّطف (٥) .
﴿وَلا يُزَكِّيهِمْ﴾ ولا يطهّرهم من دنس المعاصي كما يطهّر المؤمنين ، لعدم قابليّة الكافر للتّطهير.
__________________
(١) في النسخة : الذي.
(٢) تفسير روح البيان ١ : ٢٧٩.
(٣) تفسير الرازي ٥ : ٢٧.
(٤) كذا ، وقياس المصدر : عطف أو عطوف.
(٥) تفسير الرازي ٥ : ٢٧.