للشّرع ، فإذا منعوا عن إظهار الحقّ وحقاظته ، واتّقوا من الجبابرة ، لم يكن للنّاس على الله حجّة لكون ذلك بسوء اختيارهم ، مع أنّ بركاتهم في غيبتهم متّصلة إلى الموادّ المستعدّة ، لو توجّهوا إليهم واستمدّوا منهم.
ثمّ توصيفهم [ في كتاب ] الله تعالى بأنّهم مبشّرين ومنذرين دلالة على أنّ الأحكام والشرائع لو لم يقترنا بالتّبشير بالثّواب والأجر والإنذار بالعذاب أو العقاب لكان جعلها لغوا ، حيث إنّه لو لم يكن الطّمع والخوف ، لم يعمل أحد بحكم من الأحكام ، ولا يجري شرع من الشّرائع في الأنام.
ثمّ بيّن سبحانه أنّه لم يقنع في الهداية بإرسال الرّسل ، بل ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ﴾ متلبّسا ﴿بِالْحَقِ﴾ ودلائل الصّدق.
والظاهر أنّ المراد بالكتاب جنسه ، فإنّ المرويّ أنّ عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفا ، والمرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ، والمذكور منهم في القرآن [ باسم العلم ] ثمانية وعشرون (١) ولم ينزل مع كلّ واحد منهم كتاب ، بل الأنبياء بعد موسى عليهالسلام كان كتابهم هو التّوراة ، وكانوا حافظين لأحكامها ، وكذلك الأنبياء بعد عيسى عليهالسلام كان كتابهم الإنجيل ، وكانوا حافظين له ، وإن كان لبعض النّبيّين كداود عليهالسلام كتاب ولكن لم يكن فيه أحكام.
﴿لِيَحْكُمَ﴾ النّبيّ أو الكتاب المنزل عليه ﴿بَيْنَ النَّاسِ﴾ وليكون المرجع عندهم ﴿فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ من الحقّ والدّين ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ وانزل إليهم لرفع الاختلاف من بينهم ، فجعلوا الكتاب الذي انزل لرفع الاختلاف وسيلة لشدّة الاختلاف ﴿مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ﴾ والدّلائل الواضحات على الحقّ بحيث لم يكن مجال لأن يشتبه عليهم ، وإنّما كان الاختلاف ﴿بَغْياً﴾ وظلما وحسدا ﴿بَيْنَهُمْ﴾ لحرصهم على الدّنيا وزخارفها.
﴿فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ منهم ، وهم امّة محمّد صلىاللهعليهوآله ﴿لِمَا اخْتَلَفُوا﴾ سائر النّاس ﴿فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾ وتبيينه وتوفيقه لفهمه وقبوله.
روي أنّه صلىاللهعليهوآله قال : « نحن الآخرون السّابقون يوم القيامة ، ونحن أوّل النّاس دخولا في الجنّة يوم القيامة ، بيد أنّهم اوتوا الكتاب من قبلنا واوتيناه من بعدهم ، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه ، فهذا اليوم الذي هدانا الله (٢) ، والنّاس لنا فيه تبع ، وغدا لليهود ، وبعد غد للنّصارى » (٣).
__________________
(١) راجع : تفسير البيضاوي ١ : ١١٥.
(٢) في تفسير الرازي : هدانا له.
(٣) تفسير الرازي ٦ : ١٦.