﴿وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً﴾ لما ترون فيه من المشقّة والضّرر على النّفس والمال من غير صلاح ظاهر ﴿وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ في الحقيقة ، وصلاحكم في الواقع ، كما أنّ المريض إذا كان جاهلا بنفع شرب الدّواء المرّ النّتن ، لا يتحمّل شربه إلّا بكره وجبر ، بخلاف ما إذا علم بكون شفائه في شربه ، فإنّه يشتاق إليه أكثر من اشتياقه إلى شرب الأشربة الحلوة الطيّبة.
﴿وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً﴾ وتشتاقوا إليه لجهلكم بضرّه وشرّه ، وموافقته لطباعكم ﴿وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ يكون فيه فسادكم وهلاككم ، فإنّ الطّفل يشتاق إلى أن يلعب بالحيّة لحسن منظرها ولين لمسها ، وجهله بأنها قاتلة ، وأنّ في قربها هلاكه.
﴿وَاللهُ يَعْلَمُ﴾ واقع صلاح الأشياء وفسادها ﴿وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ شيئا إلّا بتعليم الله ، فما أمركم به فاعلموا أنّ فيه خيركم وصلاحكم ، ولا تنظروا إلى كونه مكروها لطباعكم أو مفسدة في اعتقادكم ، فعليكم البدار إلى طاعة أوامره ولو كان بإلقاء أنفسكم في المهالك وتحت أظلّة السّيوف.
في دفع توهّم التنافي بين التكاليف الشرعية الشاقة وبين نفي الحرج
فإن قيل : التّكليف بالأعمال الشاقّة والحرجيّة والضّرريّة ينافي قوله سبحانه : ﴿ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾(١) وقوله : ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾(٢) وقوله صلىاللهعليهوآله : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » (٣) .
قلنا : المراد من العسر والحرج والضّرر ، ما يكون بجهات طارئة على متعلّق التّكليف ، لا ما هو في نوع المكلّف به وحقيقته ، مثلا التّكليف بالجهاد والزّكاة يكون في نوعهما الضّرر والحرج ، وهما باللّحاظ الأوّليّة مقتضي لثبوت التّكليف لا رافع له ، ولا يمكن أن يكون مقتضي الشيء مانعا عنه أو رافعا له ، بخلاف العسر والحرج والضّرر الطارئ على التكليف ، كأن يكون المكلّف مريضا أو يكون أداء الزّكاة موجبا - اتّفاقا - لضرر بذل مال آخر في إيصاله إلى الفقير ، فإنّ دليل نفي الحرج والضّرر رافع للتّكليف في هذه الصّورة ولا منافاة.
والحاصل : أنّ مفاد قوله تعالى : ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ أنّ الله تعالى أراد من كلّ عمل أمركم به ، الصنف الذي ليس فيه مشقّة زائدة على ما اقتضته طبيعة ذلك العمل ، ولم يرد منكم الصّنف الذي فيه الضّرر والعسر الزائد بالنسبة إلى أصل الطّبيعة المأمور بها ، مثلا الوضوء بالماء ، مع كون المشقّة العظيمة في تحصيله وإن كان موجبا للطّهارة ولكنّ الله لم يرض بتحمّل تلك المشقّة
__________________
(١) الحج : ٢٢ / ٧٨.
(٢) البقرة : ٢ / ١٨٥.
(٣) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢٤٣ / ٧٧٧.