العالمين » (١) .
وقال بعض العلماء : إنّ كلّ أمير تكون مؤنته على قدر رعيّته ، وسعة مملكته. فالأمير الذي تكون إمارته على قرية تكون مؤنته بقدر تلك القرية ، ومن ملك المشرق والمغرب احتاج إلى أموال وذخائر أكثر من أموال أمير القرية ، فكذلك كلّ رسول بعث إلى قومه ، اعطي من كنوز التّوحيد وجواهر المعرفة على قدر ما حمّل من الرّسالة ، فالمرسل إلى قومه في طرف مخصوص من الأرض ، إنّما يعطى من كنوز الرّوحانيّة بقدر ذلك الموضع ، والمرسل إلى كلّ أهل المشرق والمغرب إنسهم وجهنّم ، لا بدّ وأن يعطى من المعرفة بقدر ما يمكنه أن يقوم بامور أهل الشّرق والغرب.
وإذا كان كذلك ، كانت نسبة نبوّة محمّد صلىاللهعليهوآله إلى نبوّة سائر الأنبياء ، كنسبة ملك كلّ المشارق والمغارب إلى ملك بعض البلاد المخصوصة (٢) ، فلا جرم بلغ في العلم والحكمة والمعرفة إلى حدّ لم يبلغه أحد من البشر ، قال تعالى : ﴿فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى﴾(٣) وفي الفصاحة - إلى أن قال : « اوتيت جوامع الكلم » وصار كتابه مهيمنا على سائر الكتب ، وصارت امّته خير الأمم (٤).
ثمّ خصّ الله تعالى عيسى بن مريم بالذكر ، بقوله : ﴿وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ الآيات ﴿الْبَيِّناتِ﴾ والمعجزات الباهرات كإحياء الطّير المسوّى من الطّين بالنّفخ فيه ، وإحياء الموتى وغير ذلك ، مع كون معجزات موسى عليهالسلام أكثر لتوبيخ اليهود على عدم الإيمان به ، مع وفور معجزاته ﴿وَأَيَّدْناهُ﴾ وأعنّاه ﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ قيل : إنّ القدس هو الله ، وروحه جبرئيل.
والإضافة تشريفيّة ، فإنّ الله أعانه بجبرئيل في أوّل أمره ، حيث قال : ﴿فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا﴾(٥) وفي وسطه حيث علّمه العلوم ، وفي آخره حيث إنّه رفعه إلى السّماء (٦) .
وهؤلاء النّبيّون مع علوّ شأنهم وإتيانهم المعجزات الباهرات ، اختلفت اممهم في الكفر والإيمان حتى تقاتلوا ﴿وَلَوْ شاءَ اللهُ﴾ وأراد - إرادة تكوينيّة - توافقهم على الحقّ ، وتسالمهم عليه ، وترك مقاتلتهم ، لاتّفقوا على الإيمان بالقهر والجبر ﴿مَا اقْتَتَلَ﴾ اممهم ﴿الَّذِينَ﴾ كانوا ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ وغبّ (٧) وفاتهم ﴿مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ﴾ من قبل رسلهم ، الآيات ﴿الْبَيِّناتِ﴾ وشاهدوا المعجزات ،
__________________
(١) تفسير الرازي ٦ : ١٩٨.
(٢) زاد في تفسير الرازي : ولمّا كان كذلك لا جرم اعطي من كنوز الحكمة والعلم ما لم يعط أحد قبله.
(٣) النجم : ٥٣ / ١٠.
(٤) تفسير الرازي ٦ : ١٩٨.
(٥) التحريم : ٦٦ / ١٢.
(٦) تفسير الرازي ٦ : ٢٠٣.
(٧) أي بعدها.