الرجال ، والعجب مع ذلك من بعض حيث قال (١) : علم المناسبة علم حسن ، لكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متّحد ، مرتبط أوّله بآخره ، فإن وقع على أسباب مختلفة ، لم يقع فيه ارتباط ، ومن ربط ذلك فهو متكلّف بما لا يقدر عليه إلّا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث ، فضلا عن أحسنه ، فإنّ القرآن نزل في نيّف وعشرين سنة في أحكام مختلفة شرّعت لأسباب مختلفة ، وما كان كذلك لا يتأتّى ربط بعضه ببعض (٢) ، انتهى.
فإنّ مثل هذا الكلام في ترتيب كلام الله لا ينبغي صدوره من عاقل ، فضلا عن فاضل ، إذ من الواضح أنّ كلّ من ألّف كتابا مشتملا على مطالب متفرّقة وقضايا متشتّتة ، يلاحظ البتّة في ترتيبها مناسبة وارتباطا ، فكيف بالحكيم المتعال !
فإنّ المناسبات بين القضايا المتفرّقة والأحكام المختلفة كثيرة جدّا خصوصا في نظر من كان عالما بحقائق الأشياء وجهات الامور ، نعم فهم غير العلماء الراسخين الربّانيّين قاصر عن درك جميع المناسبات اللّطيفة المنظورة للّطيف الخبير ، ولذا لم يحم حوله المفسّرون ، ولم يخض فيه المتبحّرون.
نعم ، تكلّف قليل من علماء العامّة لبيانها ، وأجالوا الفكر في هذه العرصة مع عدم كونهم من فرسانها ، وأين لهم التمكّن في هذا القصر المشيد ، وأنّى لهم التناوش من مكان بعيد ؟ حيث إنّهم ما ثقفوا بحبل الله المتين ، وما اتّخذوا سبيلا مع الهداة الرّاسخين.
وإنّي وإن سلكت في هذا الطريق الزليق ، وغصت في هذا البحر العميق ، وخضت كالذي خاضوا ، وأفضت من حيث أفاضوا ، غير أنّي لمعرفتي بقصوري ما غضضت على ما نلت بضرس قاطع ، وما حكمت فيما قلت على أنّه هو الحقّ الواقع ، بل أبديت ما يليق بالظّنّ والاحتمال لئلا يتوهّم في ترتيب الكتاب العزيز ما توهّمه هذا البعض من الأمر المحال.
قال الشيخ وليّ الدين الملّوي : قد وهم من قال : لا يطلب للآي الكريمة مناسبة ، لأنّها على حسب الوقائع المفرّقة ، وفصل الخطاب أنّها على حسب الوقائع تنزيلا ، وعلى حسب الحكمة ترتيبا وتأصيلا ، فالمصحف على وفق ما في اللّوح المحفوظ مرتّبة سوره كلّها وآياته بالتوقيف كما انزل جملة إلى بيت العزّة ، ومن المعجز البيّن أسلوبه ونظمه الباهر ، والذي ينبغي في كلّ آية أن يبحث أوّل
__________________
(١) هو الشيخ عز الدين بن عبد السّلام.
(٢) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٣٧٠.