وأكرمونا ، فلو آمنّا به لأخذوا منّا كلّ هذه الأشياء ، فوقع ذلك في قلب كرز ، وكان يضمره إلى أن أسلم ، فكان يحدّث بذلك.
فأتوا المدينة ، ثمّ دخلوا مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآله بعد صلاة العصر ، عليهم ثياب خيّرات ، من جبب وأردية فاخرة ، يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي صلىاللهعليهوآله : ما رأينا وفدا مثلهم. وقد حانت صلاتهم فقاموا ليصلّوا في المسجد ، فقال عليهالسلام : « دعوهم » فصلّوا إلى المشرق.
ثمّ تكلّم أولئك الثّلاثة مع رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقالوا تارة : عيسى هو الله ؛ لأنّه كان يحيي الموتى ، ويبرئ الأسقام ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطّين كهيئة الطّير ؛ فينفخ فيه فيطير ، وتارة اخرى : هو ابن الله ؛ إذ لم يكن له أب يعلم ، وتارة اخرى : إنّه ثالث ثلاثة ؛ لقوله تعالى : ( فعلناه ) و( قلنا ) ولو كان واحدا لقال : فعلت وقلت.
فقال لهم رسول الله صلىاللهعليهوآله : « أسلموا » . فقالوا : أسلمنا قبلك. قال صلىاللهعليهوآله : « كذبتم ، كيف يصحّ إسلامكم وأنتم تثبتون لله ولدا ، وتعبدون الصّليب ، وتأكلون الخنزير ؟ »
قالوا : إن لم يكن ولد الله فمن أبوه ؟ فسكت رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فأنزل الله تعالى في ذلك أوّل سورة آل عمران (١) .
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم﴾ وقد مرّ تفسير البسملة ، وتأويل الحروف المقطّعة ، وإنّما بدأ السورة بها لتوجيه الأذهان إلى إصغاء ما بعدها من البراهين القاطعة على التّوحيد ، وإبطال الشّرك.
ولمّا كان مقام الاحتجاج مع النّصارى ، بدأ سبحانه - على قانون الجدل - ببيان التّوحيد الذاتي ، الذي هو المدّعى الأوّل بقوله : ﴿اللهُ﴾ حيث إنّه علم للذات الواجب ، المستجمع لجميع الكمالات ، الممتنع تعدّده وتكثّرة ، ثمّ ثنّاه ببيان التّوحيد العبادتي بقوله ، مخبرا عن ذاته بأنّه ﴿لا إِلهَ﴾ ولا معبود متصوّر أو موجود ﴿إِلَّا هُوَ﴾
فالجملة الخبريّة دلّت على نفي الوهيّة عيسى ومعبوديّته ، ردّا على النّصارى ، حيث إنّ طائفة منهم كانوا يقولون : عيسى هو الخالق والمعبود لا غيره ، وطائفة اخرى يقولون : هو أحد المعبودين الثّلاثة ، وثالثة يقولون : هو أحد المعبودين لكونه ابن الله.
ثمّ أخذ سبحانه في الاستدلال على وحدانيّة ذاته بقوله مخبرا عنه بأنّه ﴿الْحَيُ﴾ الذي لا يموت
__________________
(١) تفسير الرازي ٧ : ١٥٤ ، تفسير روح البيان ٢ : ٢.