﴿الْمُقَنْطَرَةِ﴾ مأخوذة من القنطار ، قيل : جيء بها للتّأكيد. وقيل : معناه : الكثيرة ، المنضّدة بعضها على بعض. وقيل : المضروبة المنقوشة ، حال كونها ﴿مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ﴾
وعلّة حبّهما كونهما ثمن سائر الأشياء ، فمالكهما كمالك جميع الأشياء ، ولذا قدّمهما سبحانه بالذّكر على قوله : ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ والافراس المرسلة من كثرتها ، للرّعي ﴿وَالْأَنْعامِ﴾ الثّلاثة من الإبل والبقر والغنم ، بأصنافها ﴿وَالْحَرْثِ﴾ من الغرس والزّرع.
وحبّ هذه الأشياء وإن كان ممّا يقوم به نظام العالم ويتمّ عيش بني آدم ، إلّا أنّها لمّا كانت في الأغلب ملهية عن ذكر الله وشاغله عن طاعته ، ذمّها سبحانه بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ المذكور من المشتهيّات ﴿مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ الدّنيّة الفانية ، وملذّاتها اليسيرة الزائلة.
فلا ينبغي للعاقل المؤمن أن يتوجّه إليها ، ويتعلّق قلبه بها ، ويصرف همّه فيها ، بل عليه أن يتوجّه بكلّه إلى الله والدّار الآخرة ، ويجعل حبّ هذه الامور تابعا لحبّ الله ، وتحصيلها وصلة إلى طاعة الله ومرضاته ؛ لوضوح أنّ جميع هذه النّعم مقدّمات للأعمال الصّالحة ، ووسائل لتحصيل الدّرجات الاخرويّة.
في أنّ المؤمن يحبّ الدنيا لتحصيل الآخرة بها
فالمؤمن اللّبيب يحبّ المال ويكتسبه للإنفاق في سبيل الله ، والإرفاق بعباده ؛ ويحرث لأن يوفّق لأداء الزكاة ، ويتّجر للتّوسعة على العيال والصّدقة على الفقراء ، ويتزوّج لتحصين الفرج من الحرام وحفظ الإيمان وتكثير النّسل وتثقيل الأرض بالولد الموحّد الصّالح ، ويأكل ويشرب للتّقوّي على الطّاعة ، والقيام بوظائف العبوديّة.
والحاصل : أنّ المؤمن يحبّ الدّنيا وما فيها لغرض تحصيل الآخرة ، ولذا فسّر قوله تعالى : ﴿رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً﴾(١) بالمرأة الصّالحة وسعة الرّزق. فاتّضح أنّ حبّ الدّنيا لحبّ الله وطلب مرضاته ، ليس الحبّ المذموم ، بل هو ممدوح غايته ، لكونه عين حبّ الله وحبّ طاعته ومرضاته ، فإنّ من يتحمّل شرب الدّواء المرّ للبرء من المرض وطلب السّلامة منه ، لا يعدّ محبّا للدّواء ، بل هو محبّ للبرء من المرض ، وطالب له.
والحاصل : أنّ المؤمن الكامل لا ينال من الدّنيا إلّا لنيل الآخرة ، والقرب من الله ، ومع قطع النّظر عن ذلك يكون مبغضا لها ومعرضا عنها ، وتكون عنده أهون من عراق (٢) خنزير في يد مجذوم ، وأضرّ من
__________________
(١) البقرة : ٢ / ٢٠١.
(٢) العراق : العظم اكل لحمه.