ومنها : شدّة الاهتمام بحفظه ، وزيادة الحبّ بمضامينه ، إذ الانسان إذا تحمّل المشقّة في تحصيل شيء ، كان له أحبّ وأحفظ.
ومنها : زيادة عظم القرآن في الأنظار ، حيث إنّ العادة قاضية بأنّ كلّ كتاب كان فهم مطالبه أشكل ، كان قدره عند النّاس أعظم.
ومنها : فتنة الخلق وامتحانهم بها ، وتبيّن الصادقين في الإيمان من الكاذبين ، فإنّ الحكمة البالغة مقتضية لأن لا ينسدّ على أحد باب الغيّ والضّلال في حال من الأحوال ، ولا يكون لأحد إلجاء وقهر على الالتزام بالحقّ وقبول الرّشاد ، وإذا كانت جميع الآيات محكمات لم يكن لأهل الزيغ مجال ابتغاء الفتنة والفساد مع إتمام الحجّة عليهم بالأمر بالرجوع فيها إلى الحجج البالغة ، والزّجر عن التكلّم فيها ، وابتغاء تأويلها بالأهواء الزائغة.
والحاصل : أنّ الحكيم المتعال جعل كتابه التّدوينيّ مطابقا لكتابه التّكوينيّ ، وكما أنّه جعل غالب آيات الكتاب التّكويني من موجودات العالم متشابهات ، حيث جعل الطبائع فيها ، والأسباب والمؤثّرات لها ، حتّى يبقى للذّوات الخبيثة وذوي الأهواء الفاسدة والعقول المغلوبة الكاسدة مجال للقول بخالقيّة الطبيعة ، وألوهيّة الشمس وسائر الأجرام الفلكيّة ، وإنكار الصانع الحكيم لعدم علمهم بتأويلها ، وقصور نظرهم عن رؤية ما وراء طبائعها وأسبابها ، وزيغ قلوبهم عن إدراك مسبّب الأسباب وخالقها ، مع إتمام الحجّة عليهم بإرسال العقل ، العالم بتأويل تلك المتشابهات إليهم ، وجعله هاديا لهم ، وتأييده بالأنبياء المرسلة والكتب المنزلة.
فالذّوات الخبيثة بزيغ قلوبهم يؤوّلون تلك الموجودات المتشابهات التكوينيّة من قبل أنفسهم ، ويتّبعون ما تشابه ابتغاء الفتنة ، وأمّا الذّوات الطيّبة ، والنفوس الزكيّة ، فببصيرة قلوبهم يراجعون إلى العقل السليم الذي هو الإمام الراسخ في العلم ، ويتعلّمون منه التأويل ، ويتمسّكون بالبرهان من عدم إمكان كون المخلوق خالقا ، والمتغيّر واجبا ، فعند ذلك يقولون : آمنّا ، كلّ من المحكمات الواضحات الدلالات على خالقها ، والمتشابهات من الموجودات بالأسباب والمؤثّرات التي جميعها آيات كتاب التّكوين ، من عند ربّنا.
كذلك جعل كثيرا من آيات كتاب التّدوين وهو القرآن المبين متشابهات ، ليمتاز أهل الزيغ والنفاق من المتظاهرين بالإيمان بالكتاب ، عن أهل الصدق والإخلاص ، فلو لم يكن في موجودات العالم