لوجه يظهر بعد تقرير قاعدة ، وهي أنّ كلا من البشر إذا وضع كتابا فإنّما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح ، وإنّما احتيج إلى الشروح لامور ثلاثة :
أحدها : كمال فضيلة المصنّف ، فإنه لقوّته العلميّة يجمع المعاني الدقيقة في اللفظ الوجيز ، فربّما عسر فهم مراده ، فقصد بالشرح ظهور تلك المعاني الخفيّة ، ومن هنا كان شرح بعض الأئمّة تصنيفه أدلّ على المراد من شرح غيره له.
وثانيها : إغفاله بعض تتمّات المسألة ، أو شرط (١) لها اعتمادا على وضوحها ، أو لأنّها من علم آخر فيحتاج إلى الشارح لبيان المحذوف ومراتبه.
وثالثها : احتمال اللفظ لمعان ، كما في المجاز والاشتراك ودلالة الالتزام ، فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنّف وترجيحه ، وقد يقع في التصانيف ما لا يخلو عنه بشر من السّهو والغلط ، أو تكرار الشيء ، أو حذف مبهم وغير ذلك ، فيحتاج الشارح للتنبيه على ذلك.
إذا تقرّر هذا فنقول : إنّ القرآن إنّما نزل بلسان عربيّ في زمان أفصح العرب ، وكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه ، أمّا دقائق باطنه فإنّما كان يظهر لهم بعد البحث والنظر مع سؤالهم (٢) النبيّ صلىاللهعليهوآله في الأكثر ، كسؤالهم لمّا نزل قوله : ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾(٣) فقالوا : وأيّنا لم يظلم نفسه ! ففسّره النبيّ صلىاللهعليهوآله بالشّرك ، واستدلّ عليه بقوله : ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾(٤) ، وكسؤال عائشة عن الحساب اليسير ، فقال : « ذلك العرض » ، وكقصّة عدّي بن حاتم في الخيط الأبيض والأسود ، وغير ذلك ممّا سألوا عن آحاد منه ، ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه ، وزيادة على ذلك ممّا لم يحتاجوا إليه من أحكام الظواهر ، لقصورنا عن مدارك أحكام اللّغة بغير تعلّم ، فنحن أشدّ النّاس احتياجا إلى التفسير ، ومعلوم أنّ تفسير بعضه يكون من قبيل [ بسط ] الألفاظ الوجيزة وكشف معانيها ، وبعضه من قبل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض ، انتهى (٥) .
وقال بعض آخر : علم التفسير عسير يسير ، أمّا عسره فظاهر من وجوه ، أظهرها أنّه كلام متكلّم لم نصل إلى مراده بالسماع منه ، ولا أمكن الوصول إليه ، بخلاف الأمثال والأشعار ونحوها ، فإنّ الانسان يمكن علمه به إذا تكلّم بأن يسمع منه أو ممّن سمع منه ، وأمّا القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم
__________________
(١) في الاتقان : أو شروط.
(٢) في النسخة : والسؤال عن ، وما أثبتناه من الإتقان.
(٣) الأنعام : ٦ / ٨٢.
(٤) لقمان : ٣١ / ١٣.
(٥) الإتقان في علوم القرآن ٤ : ١٩٥.