فلما كان العلم الذي قدمنا صفته يلجئ صاحبه إلى اعتقاد صحته حتى لا يقع منه خلافه سمي ضروريا ، ولما كان المسمى استدلاليا يطلب له الدليل ؛ والدليل هو كل أمر إذا نظر فيه على الوجه الصحيح وصل الناظر إلى العلم اليقين إذ ما لا يكون بهذه الحال لا يسمى دليلا بل يكون أمارة وعلامة ورسما إلى غير ذلك ، فاشتق هذا الاسم من المعنى والاشتقاق مهيع اللغة والعربية ، وفيه معنى النسبة.
وأما قوله : لو كان ضروريا كما قالوا لما عرف بالحقائق والحدود ؛ فأي وجه لما ذكروا (ما به) أمر جلي إلا وله حقيقة وحد ، كما أنا نقول في حد النهار : هو الضياء المنتشر عن قرص الشمس بين وقتين مخصوصين ولا فرق عند أهل التحقيق بين الحد والحقيقة ، فإن أردت بالحد نهاية الشيء خرجت من ميدان الكلام وكان حد الشيء نهايته لغة.
وأما قوله : وتعليمه التلامذة للتصوير والاستدلال فخلف من القول ؛ لأنا لا نفتقر في الضروري إلى معلم تصوير ولا نصب دليل ولو قال لنا بعضنا في بعض الضروريات : صوّروا لي حتى أعلم ما علمتم لم يعترينا شك في اختلاله ، وتحول حاله ، ولو نصب دليلا وأنعم النظر في الاستدلال حال كونه في المسجد مثلا هل هو فيه أم لا لتبادر العقلاء إلى تأفينه وتضعيفه.
وأما قوله : إنا نعلم أن العبد يولد لا يعلم شيئا من الضروريات ولا مانع من ذلك ، ولكن ما في ذلك من دليل على نفي الضروري أفليس الضروري فعل الله سبحانه يفعله فينا وفعله موقوف على إرادته متى شاء أوجده حال الولادة كما فعل لعيسى عليهالسلام وحال الخلق كما فعل لآدم عليهالسلام وما جانسه وبعد ذلك كما نعلمه فينا ، ويحدث شيئا بعد شيء على مقدار ما يعلمه تعالى من المصلحة حتى يكمل العقل.