فالسياق سياق العناية بالنسبة إلى كل من المنزل والمنزل عليه وهما متلازمان في جميع مراحل الوجود ، فيسقط بذلك ما أطاله جمع من المفسرين في مرجع ضمير «مثله» وانه يرجع الى العبد أو الى القرآن المعبر عنه بقوله (مِمَّا أَنْزَلْنا) وذلك لأن مقام النبوة التي هي من أجل المقامات الممكنة في البشر إنما يتحقق بنزول القرآن عليه ونزول القرآن لا يكون إلّا بالنسبة إليه فالحقيقة واحدة والفرق اعتباري. نعم لما كان للكتاب الاستقلال المحض وليست النبوة إلّا الدعوة اليه فتكون نسبة الداعي إلى المدعو اليه نسبة اللفظ إلى المعنى ولا أثر في اللفظ بدون المعنى فلا بد وأن يرجع الضمير إلى القرآن ، ويشهد لذلك ما ورد في سائر آيات التحدي قال تعالى : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) [سورة الطور ، الآية : ٣٤] ، وقال جلّ شأنه (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) [سورة يونس ، الآية : ٣٨] ، وقال تعالى : (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [سورة الإسراء ، الآية : ٨٨].
وقد ثبت في العلوم الأدبية أن الجملة الشرطية تجتمع مع إمكان الشرط وتحققه خارجا بل ومع امتناعه فعلا أيضا ، ولا إشكال في تحقق الريب بالنسبة إلى بعضهم وإمكانه بالنسبة إلى بعضهم الآخر فيصح استعمال الجملة على أي تقدير.
ولفظ (كان) في نظائر المقام منسلخ عن الزمان بل أثبتنا في محله عدم دلالة الفعل على الزمان أصلا وإنما الزمان مستفاد من السياق إن لم تكن قرينة على الخلاف والريب : هو الشك كما تقدم في أول السورة.
وكلمة (من) للتبيين لكثرة وضوح المطلب وأنّ شأن هذا القرآن مما لا يرتاب فيه وأن معارضة الناس هنا معه كمعارضة سحرة فرعون مع عصا موسى ومعارضة نمرود مع إبراهيم الخليل وأنه لا معنى معقول لمعارضة المقهور تحت الطبيعة مع من هو قاهر عليها ، فالتحديات القرآنية انما وقعت لإتمام الحجة على المعاندين لا أن تكون تحديا حقيقيا واقعيا ، ومنه يظهر أن جميع ما ذكروه في التحدي في الكتب الكلامية والتفاسير بالنسبة إلى المعجزات