الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [سورة الكهف ، الآية : ٢٩].
والكفر هو ستر الحق اعتقادا أو لسانا أو عملا في مقابل الإيمان الذي هو اعتقاد بالجنان واقرار باللسان وعمل بالأركان كما تقدم. وعليه يكون للكفر مراتب كمراتب الايمان فقد يكون الشخص كافرا بالنسبة إلى مرتبة وهو مؤمن بالنسبة إلى مرتبة أخرى.
والمراد بالذين كفروا ـ بقرينة السياق ومقابلتهم لأهل اليقين والإيمان في الآية السابقة ـ من ستر الحق مطلقا وتمكّن منه الكفر واستولى عليه بحيث لا يرجى منه الإيمان وكان في علم الله من الراسخين في الكفر ، سواء كان عن عناد وجحود للحق بعد معرفته ، كما قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) [سورة النمل ، الآية : ١٤]. أو إعراض عنه للحق إما استكبارا عن النظر فيه ، أو لأجل مرض في قلوبهم ، بسبب انهماكهم في الأمور الدنيوية فعمى عليهم كل سبيل ، وسيأتي في البحث الروائي ما ينفع المقام. فهؤلاء الكفار لما علم الله منهم الجحود للحق والاستهزاء به لم ينفعهم الإنذار والتخويف والآية المباركة من قبيل القضايا الطبيعية الشاملة لكل كافر كذلك في أول الإسلام ومن يأتي بعده ويترتب على ذلك ـ قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ـ ترتب الجزاء على الشرط الحاصل باختيارهم.
(سواء) اسم بمعنى الإستواء. والإنذار هو الإخبار بالشيء ولا يكون إلّا مع تخويف بما يترتب على الإهمال بالشيء.
فيكون المعنى إنّ من كان الكفر عليه مستوليا ولم يكن من المستعدين لقبول الحق والهداية يستوي فيه الإنذار وعدمه فهم لا يؤمنون بعد دعوتهم للحق إذ وظيفة الداعي للحق هي الدعوة اليه ، بلا فرق بين المستعد للإيمان وغير المستعد وهذا من الأمور الفطرية إذ كيف ينفع الدواء مع مزاولة المريض أسباب الداء كما لا يفيد النور مع إغماض العين حتّى لا يراه ، ولم يكن ذلك نقصا في الدواء ولا عيبا في النور.