والعقوبة في الموضعين ، وحقيقة الحسن والقبح هي الموافقة لمذاق العقل والمنافرة له ، ولا شبهة أنّ لكلّ منهما مراتب في الشّدّة والضّعف باعتبار قوّة منشأهما وضعفه ، فقد يكون الحسن في فعل بمرتبة لا يزاحمه حسن آخر إذا دار الأمر بينهما ، ولا قبيح إذا استلزمه فيحسن ارتكابة ، وإن لزم منه وجود قبيح آخر أو فوت حسن آخر ، وقد تساوي جهة حسنة جهة حسن ضدّه الذي لا يجامعه في الوجود ، أو جهة قبح لازمه ، فتخيّر الفاعل بين الضدّين في الأوّل وبين النّقيضين من الفعل والتّرك في الثاني ، وقد تترجّح إحدى الجهتين على الاخرى رجحانا غير لازم الرّعاية ، فتكون رعايتها أحسن وأفضل.
إذا تمهّد ذلك نقول : لا شبهة في أنّ المعصية منشأ لانتزاع حسن اللّوم والعقوبة من حيث إنّها كاشفة عن خبث النفس وسوء السّريرة ، ثمّ إنّه قد يتدارك بالتّوبة أو بطاعة مقبولة فينتفي بوجود أحدهما منشأ انتزاع حسن العقوبة.
وبعبارة اخرى التّوبة أو الطاعة المقبولة في حكم العقل مزاحمان لمقتضى الاستحقاق ومزيلان له ، ومع عدمهما قد يكون حسن العفو مساويا لحسن العقوبة ، وقد يترجّح عليه برجحان غير ملزم فيما لم يكن مقتضى العقوبة في غاية القوّة ، مثلا الكفر والشرك يكونان في اقتضاء العقوبة بدرجة يخرجان صاحبهما عن قابليّة العفو ، حيث إنّهما يورثان ظلمة محيطة بالقلب ، بحيث لا تبقى فيه شائبة النور ، ويخرج عن مسانحة عالم الأنوار ، ويصير مناسبا لعالم الظلمات ، ويكون كالشّجر اليابس لا يليق إلّا للإحراق بالنّار ، وكالشّيطان لا ينبغي إلّا أن يكون قرينا للشّياطين في دار البوار ، وليس إسكانه في الجنان إلّا كإسكان الكلب الأجرب العقور على سرير السّلطان.
في بيان أنّ العفو عن الكافر خلاف الحكمة ووضع الشيء في غير موضعه
والحاصل : إنّ العفو عنه ، والرّحمة عليه ، والإحسان إليه ، خلاف الحكمة ، ومن قبيل وضع الشّيء في غير موضعه ، وقد ورد في الدعاء المأثور : « وأيقنت أنّك أنت أرحم الرّاحمين في موضع العفو والرّحمة ، وأشدّ المعاقبين في موضع النّكال والنّقمة » (١) .
فإنّ من الواضح أنّ الشّقاوة ملازمة للبعد والهلاك ، وإنّما الوعد بالعذاب في الحقيقة إخبار بوجود الملاك.
__________________
(١) إقبال الأعمال : ٥٨.