قبائحها ، لكونها دواعي الى إتيان ما يأمر به العقل لحسنه أو صلاحه ، وإلى ترك ما ينهى عنه العقل لقبحه وفساده ، كانت جميعها ألطافا من الله ، والتوفيق للقيام بها رحمة وعطوفة منه (١) ؛ لأنّ العمل بها مؤثّر في كمال النّفس ، ونورانيّة القلب ، والطّهارة من الأخلاق الرّذيلة السّيئة ، والتّحلّي بالملكات الجميلة الحسنة ، ويكون الانسان بها كاملا في الجهات الانسانيّة ، ومظهرا للصفات الإلهيّه ، وهذا الكمال والمظهرية هو حقيقة القرب إلى ساحة الربوبية ، والفوز بالمقصد الأعلى من التمحض في العبوديّة ، والاستغراق في بحار الأنوار ، والإرتقاء إلى درجة لا ترقى إليها العقول والأفكار.
ثمّ إنّه تعالى بعد بيان تعذيب الكفّار بالطبع والخذلان ، هدّدهم بقوله ﴿وَلَهُمْ﴾ خاصّة في الآخرة أو في الدّنيا والآخرة ﴿عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ لا يدرك شدّته وعظمته إلّا الله ، أمّا في الدنيا فبالآلام الواردة عليهم من الأخلاق السيّئة والذّلة والمسكنة والطّرد والشّرد والقتل وسائر البليّات ، وأمّا في الآخرة فبنار سجّرها القهّار بغضبه ، لا يقضى عليهم فيموتوا ، ولا يخفّف عنهم ساعة وهم فيها خالدون.
في أنّ وجه صحّة تعذيب العصاة وإثابة المطيعين هو الاستحقاق العقلي وحسنهما في حكمه.
ثمّ لا يخفى أنّ علّة تعذيب الكفّار والعصاة لا تكون إلّا استحقاقهم الذي يحكم به العقل عند عصيان العبيد مواليهم الذين تجب طاعتهم ، فإذا تحقق الاستحقاق يجب على الحكيم العمل بمقتضاه ، إذ الحكمة هي وضع الشيء في موضعه ، وإعطاء الشّيء ما يستحقّه.
إن قيل : لا شبهة في أنّ العفو عن عقوبة من يستحقّها حسن في حكم العقل ، فيجب على الله بمقتضى حكمته وكرمه.
قلنا : قد تكون المعصية من القبح بمرتبة لا يحسن العفو عن عقوبتها ، ويكون العفو عنها مخالفا للحكمة ، حيث إنّه كما يعتبر في الإحسان قابليّة المحلّ ، كذلك يعتبر في العفو ، مثلا إذا رأى كريم أجنبيا مع زوجته أو بعض محارمه ونواميسه كامّه وبنته قبح العفو عنه ، إذ العفو في المقام كاشف عن عدم الغيرة. ولذا أمر رسول الله صلىاللهعليهوآله عليّا بقتل جريح القبطيّ بمجرّد سماع رميه بمراودة مارية عن نفسها ، وكان صلىاللهعليهوآله يقول : « كان أبي إبراهيم غيورا ، وأنا أغير منه » (٢) .
ولنوضح المقام ببيان مقدّمة ، وهي أنّ فعل القبيح عند العقل والعقلاء مقتض لاستحقاق اللّوم ، والعصيان من العبد مقتض لاستحقاق العقوبة من المولى ، والمراد من الاستحقاق حسن اللّوم
__________________
(١) كذا ، والمصدر من عطف : عطفا وعطوفا.
(٢) مكارم الأخلاق : ٢٣٩.